الأحد، 9 يناير 2011

مدخل لدراسة منهج البحث العلمي عند علماء المسلمين


مدخل لدراسة منهج البحث العلمي عند علماء المسلمين

                   منهج البحث: يقتضي منهج البحث التحليلي لهذا المركب الإضافي التحدث عن طرفيه و عن الإضافة بينهما ثم عن المراد لهذا المركب، المنهج/ البحث
                   * تعريف المنهج لغة: هو الطريق المؤدي و الموصل إلى الحقيقة و يقصد به الأسلوب و الوسيلة المتخذة للوصول إلى الغاية
و الهدف قال الله تعالى" لكل جعلنا منكم شرعة و منهجا" المائدة 48. وفي حديث العباس " لم يمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ترككم على طريقة ناهجة" أي واضحة وبينة.
                   * تعريف المنهج في الاصطلاح: ذكر عبد الرحمان بدوي في مناهج البحث العلمي ص 40" المنهج هو الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة"
                   * الفرق بين المنهج والمنهجية:
لا بد من التمييز بين المنهج و المنهجية استنادا إلى الاعتبارات التالية:
1- إن المناهج وصف لأعمال العلماء المتقدمين و طرائق بحوثهم و أساليبهم و مصطلحاتهم، فالعلوم والبحث العلمي سابقة للمناهج، أما المنهجية فمجموعة معايير و تقنيات ووسائل يجب إتباعها قبل البحث و أثنائه.
2- إن المنهجية كالمنهج وصفية لأنها تبين كيف يقوم الباحثون بأبحاثهم. لكنها تختلف عنه في أنها معيارية في الوقت نفسه، لأنها تقدم للباحث مجموعة الوسائل والتقنيات الواجب إتباعها.
3- إن مناهج الدراسات تختلف من علم إلى أخر فللأدب مناهجه، وكذلك للغة، والتاريخ، و البيولوجيا، و الرياضيات... أما المنهجية فواحدة عموما.
4- إن المناهج تطرح عادة للنقد و التقويم، فيُفَصَلُ ما لها و ما عليها و أيها الأولى بالإتباع، وما المنهج المناسب لهذا النوع من الدراسات. أما المنهجية فجملة معايير و تقنيات يجب التزامها لتوفير الجهد و عدم إضاعة الوقت، وتسديد الخطى على الطريق العلمي الصحيح.
5- إن المناهج مرتبطة بالمنطق و طرق الاستدلال و الاستنتاج، ولذلك فهي تتطور وتتعدل من حين إلى أخر. أما المنهجية فأضحت عموما جملة قواعد ثابتة.
6- الغاية و الغرض من المنهجية تعليم الطالب البحث العلمي تنمية الروح العلمية فيه وتسهيل مهمته في البحث، و تجنيبه وضياع أتعابه هدرا. و موضوعها معايير البحث و الباحث، و اختيار الأستاذ المشرف، و التقميش، و كيفية كتابة البحث،  التحشية ( كتابة الحواشي) و وضع الفهارس وغيرها من الأمور. 
      
                   * تعريف البحث في اللغة: طلبك الشيء في التراب بَحَثَهُ يَبْحَثُهُ بَحْثْا. و البحث أن تسأل عن الشيء و تستخبر.  بحث وعن الخبر و بحثه يبحثه بحثا سأل و كذلك استبحثه و استبحث عنه بمعنى واحد أي فتش و تجمع على كلمة بحوث. ونجد سورة التوبة تسمى البحوث لأنها تبحث في المنافقين.

                   * العلاقة بين المنهج و البحث:
    * علاقة كشف وسؤال و استخباركشف عن الحقيقة (موضوع البحث)
    * الحقيقة على ما هي عليه في الواقع علما ← الكشف عنها يتطلب علما (المنهج) ≠ الظن أو الحدس أو الوهم لايمكن أن  يكون سبيلا إليها.
    * ما مدى استشعار الفكر الإسلامي بهذه الحقيقة و اهتمامه بها ؟
    * ما هو السبب في اعتناء علماء الإسلام بالمنهج؟ 
    * ما هو الدافع الذي جعل مفكري الغرب يهتمون بالمناهج في بحوثهم؟

                   * أهمية المنهج في الفكر الإسلامي

  - السبب الأول في ابتكار الفكر الإسلامي لمنهج علمي دقيق في البحث العقيدة الإسلامية فهي:
              - وجهت البحوث والدراسات هذه الوجهة لكشف الحقيقة
              - جعلت علماء المسلمين يستنفذون الكثير من الجهد و الوقت دون أن تكون للعالِم حصيلة من كسب مادي معين.
              - كثيرة هي النصوص القرآنية التي توجه الفكر نحو التأمل و دراسة الحقائق في ذاتيتها و ما يعرض لها من أمور ومعطيات خارجية.
              - إذا كان إدراك الحقيقة على ما هي عليه في الواقع، علما، فإن المنهج المتخذ إلى ذلك الإدراك ينبغي أن يكون هو الأخر علما. قال تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" الإسراء 36
قال تعالى " وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا" يونس 36.

                   *كيف يمكن إثبات هذا المنهج
              - إثبات هذا المنهج ليكون معيارا نحتكم إليه لا بد أن يثبت عن طريق العقل باعتباره الآلة العملية في تحديد المعرفة.
←لذلك كان مناط التكليف في الإسلام مقررا بالعقل.
←من أجل هذا قرر علماء التوحيد أن من شروط صحة إيمان المؤمن أن يكون قائما على دعائم اليقين العلمي المجرد لا على شوائب التقليد و الإتباع.
←الحقيقة العلمية في الإسلام تمثل قمة المقدسات الفكرية.
الحقيقة لا يمكن كشفها و تجليها إلا إذا كان هناك باعث ذاتي يتحرها و يسعى إلى إظهارها دون تحديد منفعة شخصية.
>المسلم مدفوع إلى البحث شعورا منه بأنه واجب يثاب على فعله و يعاقب على تركه.
لكل هذا يقتضي القيام بهذه المهمة وضع منهجا للبحث.
قال الحسن بن الهيثم
   ...(الباحث) إذا كان غرضه معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصما لكل ما ينظر فيه... ويتهم أيضا  نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسمح فيه فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق، وظهر ما عساه وقع في كلام من تقدمَه من تقصير.  

                   * أهمية المنهج

ذكر الدكتور عبد الرحمان بدوي في كتابه "مناهج البحث العلمي" 337.

إن تقدم البحث العلمي رهين بالمنهج. يدور معه وجودا وعدما خصبا وعقما. و من هنا كان الاهتمام البالغ بتقنين مناهج للبحث العلمي. ويمكن أن نفسر تطورات العلم والمعرفة العلمية بأدوارها المتفاوتة عن طريق بيان دور المنهج العلمي في تحصيلها. فما انتكس العلم إلا بسب النقص في تطبيق المناهج العلمية أو في تحديدها.


                   *اعتناء مفكري الغرب بالمناهج في بحوثهم
- ثارت أوروبا على منهج القياس القديم المتمثل بمنطق أرسطو.


    القياس الأرسطي: استدلال يستنتج الفكر في نطاقه من مقدمة أولى تسمى الكبرى، و من مقدمة ثانية تسمى الصغرى،و قضية جديدة هي النتيجة. وتتضمن هذه القضايا الثلاث، ثلاثة حدود هي الحد الأكبر و الحد الأوسط و الحد الأصغر. و تحتوي المقدمة الكبرى على حدين هما الأوسط و الأكبر، أما المقدمة الصغرى فتحتوي على الحدين الأصغر و الأوسط في حين تحتوي النتيجة الحدين الأكبر و الأصغر مثلما يتجلى في القياس التالي:
·       المقدمة الكبرى: كل الفلاسفة (الحد الأوسط) يتميزون بفكر نقدي(الحد الأكبر)
·       المقدمة الصغرى: طلبة الفلسفة (الحد الأصغر)هم فلاسفة (الحد الأوسط)
·        النتيجة طلبة الفلسفة (الحد الأصغر) يتميزون بفكر نقدي (الحد الأكبر)   

- هذه الظاهرة تسجل لأوروبا سبقها العلمي في المجال التجريبي و تنعي على المرحلة اليونانية قصورها في هذا المجال.
← هذا يرشح الغرب الأوروبي لأن يكون رائدا للبحث العلمي دون سواه.
لماذا أبرزت الكتابات الأوروبية خصائص الحلقتين اليونانية و الأوربية ملتزمة الصمت عن ذكر الدور الذي مارسه الفكر الإسلامي باعتباره حلقة وسطى بين المرحلتين؟
- كان المسلمون في هذه المرحلة مسلوبي التفكير في مثل هذا اللون من النشاط الفكري.  
- ذيوع وانتشار في هذه المرحلة سبق أوروبا في المجال التجريبي.
سيطرت على عقول بعض المثقفين من أبناء هذه الأمة أن لا حضارة غير الأوروبية قد اهتدت إلى المنهج العلمي. ربما دهشتهم عند الحديث عن دور علماء المسلمين في هذا المجال رغم اعتراف بعض الرواد في أوروبا بدور المسلمين في قيام منهج علمي استفادت منه أوروبا.
- هذه الظاهرة ولدتها جملة أسباب أدت إلى مثل هذا الموقف من طبيعة الفكر الإسلامي في مجال العلم. ويمكن رد هذه الأسباب إلى عاملين رئيسين:
                   * العامل الأول: خلو الأبحاث في مجال التاريخ من ذكر الدور العلمي للمسلمين. وذلك إما عن جهل  وفي كثير من الأحيان عن قصد في مرحلة زمنية كانت الأبحاث المذكورة هي الموجهة لطبيعة الفكر و كانت معظم الكتابات لمؤرخين غربيين بحيث حملت كل ما يمكن أن تحمله إحساسات الغالب بالنسبة للمغلوب.
>هذه الكتابات تقيم الفكر الإسلامي بمنظار أوروبي ينطلق من ذلك الإحساس الذي يتسم بمنطق الاستعلاء و السيطرة الفكرية. و لقد افتتن بها الكثيرون من أبناء العالم الإسلامي نفسه. 
                   * العامل الثاني: الكتابات التي تنال من قيمة الفكر الإسلامي و تنكر أصالته بحيث قامت هذه الآراء على الإنقاص من قيمة العقلية الإسلامية و نعتها بالقصور والتخلف. لذلك جاءت هذه الآراء مثقلة بالأحكام الجائرة و المنافية تماما لما عليه مواصفات الفكر الإسلامي .
الباحث النزيه الدقيق سرعان ما يكشف هذه الفجوة التي تؤدي إليها هذه النظرة  وما تحمله من ظلم سافر لمرحلة مهمة من مراحل الدورة العلمية تلك هي مرحلة الفكر الإسلامي في العصر الوسيط و الدور الذي مثلته على مستوى المعرفة في مختلف المجالات العلمية. فقد استطاع مفكرو الإسلام في هذه المرحلة أن يقدموا أكبر انجاز في مجال البحث العلمي: المنهج التجريبي الاستقرائي.


الاستقراء التجريبي: الاتجاه الذي يؤمن بأن التجربة و الخبرة الحسية هي الأساس العام و المصدر الرئيس لكل ألوان المعرفة التي يزخر بها الفكر البشري.
  
     
                   و مما يزيد هذه المرحلة أصالة و عمقا أن مفكريها تنبهوا إلى مضامين علمية في مجال المنهج العلمي لم يكن في وسع رواد المنهج في أوروبا الحديثة التدليل عليها أو كشف ملابساتها و صورة إنتاجها رغم اعتمادهم ونقلهم إياها من علماء المسلمين كالمنهج الاستدلالي.


المنهج الاستدلالي هو الذي نسير فيه من مبدأ إلى قضايا تنتج عنه بالضرورة دون التجاء إلى تجربة. وهو منهج العلوم الرياضية خصوصا
و المنهج الاستردادي:
 و هو المنهج التاريخي و الذي يعرف عند علماء المسلمين بعلم مصطلح الحديث وطرق التحقيق التاريخي.
                   و قد أشار بعض المنصفين من الغربيين ممن أرخوا للبحث العلمي إلى دور المسلمين و ما أسهموا به من انجازات علمية و سبقهم في مزاولة المنهج التجريبي في البحث العلمي. ولم ينحصر فضل المسلمين في تبني المنهج العلمي فحسب بل شمل أيضا الحفاظ على مرحلة مهمة من مراحل الفكر الإنساني تلك هي مرحلة الفكر اليوناني.
                المسار التاريخي:
الفكر اليوناني، الفكر الإسلامي و الفكر الغربي
                   درست هذه المرحلة على أيدي المسلمين بأسلوب النقد و التحقيق و امتازت هذه الدراسة بالقبول و الرفض و التعديل لأراء هذه المرحلة و ذلك عن طريق تحقيق النصوص و دراستها و شرحها. تبرز هنا أهمية علماء المسلمين في جمع و تدوين التراث اليوناني الصحيح و المنخول. فإذا أضيف إلى هذا دور المسلمين في شرح التراث الفكري اليوناني و التوسع في إخصابه بالفكر الإسلامي الأصيل فإننا سنجد فضل المسلمين على التراث اليوناني من كل نواحي الفضل. و أكبر من فضل أية أمة أخرى.
وهكذا تلقى المسلمون التراث الإغريقي بالدرس و التحقيق لقبول ما يمكن قبوله من الآراء و رفض البعض الآخر متفاعلين مع ذلك التراث بفكرهم، فتمخض عن ذلك مولد فكر جديد.
                   إن علماء المسلمين لم يأخذوا الفكر اليوناني ممثلا بأفكار فلاسفته دون غربلة وتمحيص و تدقيق بل أخضعوا هذا الفكر للنقد والتحقيق. و من جملة ما نقد المسلمون المنطق الأرسطي. باعتباره منهجا لطبيعة التفكير والبحث فبينوا عيوبه و كشفوا أخطائه و التزموا بمنهج أخر يتمثل في الاستقراء التجريبي بديلا عن القياس الأرسطي.
                   إن التتبع و التوسع في بحوث المنهج العلمي لدى المسلمين يؤدي إلى تجلي صورة المنهج لديهم  و الخطوات العلمية الكبيرة التي خطوها في هذا المجال، ويستطيع الباحث المنصف أن يقف على مدى الإسهام الكبير الذي حققه مفكرو الإسلام في مجال البحث العلمي. وهو إسهام يدعو إلى إجلال و تقدير كبيرين.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق