السبت، 8 ديسمبر 2012

ماذا يريد الاتحاد العام التونسي للشغل؟

تجاذبات سياسية و صراعات و مصالح حزبية و استباق لحملات انتخابية تعيشها الساحة السياسية في  تونس في ظل حكومة هشة و أداء هزيل و إرث اقتصادي و اجتماعي صعب مع انتظارات كبيرة و مطلبية  آنية يقابل ذلك تصعيدا  متعمدا و مقصودا من قياديي الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يبدو أنه تخلى عن دوره في العمل النقابي و أصبح وسيلة ضغط على الحكومة بتبني اضرابات في العديد من القطاعات و المطالبة بالزيادات في الأجور بشكل أثقل كاهل ميزانية الدولة. بل لقد كان وراء اغلاق العديد من المؤسسات الاقتصادية و احالة العديد من العمال على البطالة اليوم هناك اكثر من 200 مؤسسة أغلقت و بقاء قرابة 2500 عامل في حالة بطالة. كل هذا بسبب تعنت قيادة الاتحاد و رفض التفاوض مما دفع المؤسسات التي تعمل تحت قانون أفريل 72 إلى الإغلاق بل وصل الأمر ببعض النقابيين إلى استعمال العنف مع من رفض الدخول في الاضراب للمحافظة على المؤسسة و التزماتها مع الشركات التي تتعامل معها في الخارج. لقد اتضح اليوم للجميع أن الاتحاد يلعب لعبة قذرة كقذارة قيادييه فهو ينفذ بالنيابة برنامج حزب يساري متطرف لم يستطع كسب أصواتا في الانتخابات بل كان من البقايا و الأصفار. 
و لعل الأدهى و الأمر أن أصواتا من الحزب المنحل انبعثت من جديد و انتظمت في ما يسمى نداء تونس و هي وجوه عرفها التونسيون بموالاتها للمخلوع و بفسدها الأخلاقي و السياسي إن وجوها كانت لحد ليلة 13 جانفي مساندة للمخلوع و قد خرجت في شوارع تونس تهلل بالخطاب الذي ألقاه في محاولة لتهدئة الأوضاع. لقد كان البعض بوليسا سياسيا و قد انكشف أمره و فضح حتى أنه لم يستطع التكذيب أو الرد أمام الكم الهائل من الحجج نجده اليوم في المنابر التلفزية يتكلم عن الحرية و الديمقراطية و على أداء الحكومة هذا مع تسلل البعض من هؤلاء في غفلة من الشعب للمجلس الوطني التأسيسي و التجاسر على مدح التجمع و سب الشعب بالقول بأن التجمع سيّدنا.
في خضم كل هذه الأحداث هل نحتاج إلى ثورة لتصحح المسار أم أننا فقدنا استحقاقات الثورة و ارتكسنا للوراء و خسرنا معركتنا مع الفساد و رموزه الذين خرجوا من الباب ليعودوا من الشباك بل قل من نفس الباب الذي بقي مفتوحا دون رقابة و انتباه للداخلين

الأربعاء، 14 مارس 2012

السعودية: دلالات شعار الدولة السلفية الآن



ليس من المستغرب أن تظل الدولة السعودية تبحث عن هوية وشعار تلصقه بها، خاصة في عصر الثورات العربية. في الماضي تقمص النظام مصطلح دولة التوحيد وحليفه جند التوحيد ليكرس في المخيلة ازدواجية توحيد الأرض والبشر من جهة والتوحيد بمفهومه الديني من جهة أخرى، لكن مؤخرا ظهر ولي العهد السعودي بمصطلح جديد يطرح للتداول والنقاش على ألسنة المتلقين من مختلف الأطياف الفكرية والسياسية، وأسقط على النظام السعودي مصطلح الدولة السلفية، فصفق البعض وتحفظ البعض الآخر حيث وجدوا في هذا المصطلح حيزا ضيقا لا يحتوي على هوية الدولة الإسلامية الشاملة.
وهنا ليس لنا أن نقيم مدى انطباق الاسم على المسمى أو صلاحية مثل هذا الوصف لنظام طارئ لم تثبت بعد هويته، بل هي في طور التغير حسب المعطيات السياسية الآنية، وإنما نحاول فهم الطرف التاريخي الآني، الذي دفع بهذا المصطلح للواجهة كهدية واسم لنظام حديث العهد بالعمق التاريخي في قاموس الدول.
هناك عدة أسباب تدفع بالنظام السعودي للترويج لمصطلح كهذا، خاصة في المحيط العربي المتغير والمتبدل.
 السبب الأول: ينطلق من رغبة نظام الحكم أن يدغدغ مشاعر جمهوره السلفي التقليدي الموالي للسلطة والمدافع عنها، والممانع لآي تغيير يطرأ على مؤسساتها لما في ذلك من هزيمة لمصالحه التاريخية المرتبطة بالنظام. ويعتبر هذا الجمهور السلفي متطرفا في ولائه للنظام محرما أي شكل من أشكال العمل السياسي، بل هو ينفي عن المواطن والمجتمع صفة العمل السياسي أو المشاركة في صنع القرار، ويحرم الحراك الجماعي السلمي المطالب بالحقوق، ولا يزال هذا التيار يتمسك بصلاحياته والمؤسسات التي سمح له النظام باحتلالها وتثبيت سلطته عليها وتوزيع شخصياته على المناصب المتوفرة فيها من هيئات فقهية وتعليمية وقضائية واجتماعية وخيرية.
ورغم أن هذا التيار السلفي المحدود فكريا والمنتشر أفقيا قد تلقى ضربات قاسية من السلطة ذاتها وبعض أطياف المجتمع، إلا أن فضله على النظام يحتاج ليس فقط إلى المكرمات من مبدأ المكافأة، بل أيضا هو يطلب الاعتراف به كهوية تلازم الدولة الملكية المطلقة المعتمدة على الحكم الأسري المتشعب. من هنا جاءت شعارات كشعار الدولة السلفية لتكافئ هذه الشريحة على جهدها في قمع أي حراك شعبي وتكفيره والزج به في خندق الفتنة وغيرها من مصطلحات شاعت تحت عباءة هذه الشريحة الدينية السلطوية.
السبب الثاني: وراء استدعاء هذا المصطلح في المرحلة الراهنة هو التغيرات الطارئة في العالم العربي.
كان النظام السعودي يفتخر انه النظام الإسلامي الذي يطبق الشريعة عكس الجمهوريات العربية، التي كان ضمنيا عن طريق سلفيته يروج لها وكأنها بؤر كفر والحاد قامت على يد أشخاص كانت المؤسسة الدينية السعودية السلفية قد أصدرت أحكامها عليهم وكفرتهم منذ أكثر من أربعة عقود، لكن اليوم وبعد سقوط هذه الرؤوس القديمة تواجه السعودية تحديا جديدا يتمثل في هويات الكيانات الجديدة المنبثقة عن مخاضات الربيع العربي، ومن أهم التحديات هو وصول إسلاميين من أطياف متعددة، منها الإخواني والسلفي إلى برلمانات منتخبة وكلها تستمد مناهجها من تفسيرات ومبادئ إسلامية وهذا ما يجعل النظام السعودي يهتز لمثل هذه النتائج التي تفضح مقولة احتكاره للإسلام وتطبيق الشريعة، ومن المفارقات أن تكون دولة تدعي الإسلام تحتقن من بروز الإسلاميين في دول عربية أخرى هم أيضا يستمدون شرعيتهم من شعارات إسلامية صرفة ستخضع لحظة ممارسة السلطة للامتحان القادم. لذلك تبدو هوية الدولة السعودية الإسلامية الشاملة كأنها تتعرض للمنافسة بعد فترة احتكار الإسلام عندما كان النظام يعتبر نفسه الأول والأخير في مسيرة الدول الإسلامية.
ومن هنا جاء الشعار الجديد السلفي ليفرق بين دول إسلامية شاملة كالتي بدأت ملامحها تظهر في العالم العربي وبين ما يسمى بالخصوصية السعودية التي تمثلت في رفع مصطلح الدولة السلفية مؤخرا.
السبب الثالث هو كون السعودية بنظامها الحالي تفتقد لمعطيات وآلية المؤسسات السياسية، حيث إنها لا تزال دولة فئوية تقوم على الحكم الأسري الوراثي، بينما تقدم بعض الأحزاب الإسلامية في المنطقة مشروعا لنظام الحكم يعتمد على مبادئ إسلامية ويجمع بينها وبين مؤسسات حديثة كالمجالس المنتخبة والدستور المكتوب وقوانين الأحزاب، وكلها مؤسسات جديدة جاءت مع مفهوم الدولة الحديثة.
وأكثر ما يزعج النظام السعودي هو المزج بين الهوية الإسلامية والديمقراطية التي قد تتبلور في بعض الدول العربية كتونس ومصر، خاصة أن نتائجها في بلد مثل تركيا جاءت بنقلة نوعية في الممارسة السياسية والنمو الاقتصادي. وعندما ترفع الدولة السعودية شعار الدولة السلفية حسب المفهوم الضيق للمصطلح، الذي ينظر له طيف كبير من علماء المملكة الرسميين فهي تحاول جاهدة أن تتميز عن الحدث الطارئ على الساحة العربية، وهو هذا المزج بين الهوية الإسلامية وآليات الديمقراطية التي طالما اعتبرها منظرو السلفية السعودية نظاما خارجا عن التقليد الإسلامي المعترف به في نصوصهم ومراجعهم. وان جاء هذا المزج من جماعة الإخوان المسلمين فعادة يسلط النظام السعودي عليه خطب أئمته، خاصة تلك التي تطعن بالآخرين من منطلق عقائدهم المميعة وحزبيتهم المقيتة وأهدافهم السياسية على حساب المعايير الدينية الثابتة، في محاولة بائسة لسحب البساط من تحت أقدام مريدي هذا التيار في الداخل السعودي، وأسوأ من ذلك بحسب معايير النظام السعودي هو أن تخرج تيارات من رحم السلفية ذاتها، التي يحاول أن يتقمصها، تطالب بتفعيل معاني سياسية حديثة تستمد شرعيتها من تفسيرات مغايرة لتلك التي تطرحها الفصائل السلفية المرتبطة بالإسلام السعودي الموالي للسلطة المطلقة. وقد ظهرت بالفعل تيارات سلفية تشارك بالانتخابات وتطالب بصياغة دساتير للحكم وتقتنع بالتعددية وتلح على حق الأمة بانتخاب رئيسها وتشارك في الانتخابات منذ فترة غير قصيرة. وإن كان من السهل على النظام السعودي أن يطعن بالتيارات السلفية التي استعملت العنف في سبيل مشروعها، إلا أنه ليس من السهل أن يحيد التيارات السلفية الجديدة والتي تتبنى مشروع العمل السياسي السلمي كالانتخابات والمظاهرات والعصيان المدني، ولا تعتبر مثل هذه الآليات خروجا على الحاكم أو فتنة تشق الصف.
جاء شعار الدولة السلفية الذي يتبناه ولي العهد السعودي باهتا غير قادر على استيعاب الساحة الإسلامية المتشعبة والمتنوعة، ليس فقط في خارج حدود السعودية بل في عقر دارها وضمن المؤسسات القائمة حاليا. وبعد إن كثرت الأطروحات السياسية الإسلامية يجد النظام السعودي حاجة ماسة إلى إعادة تثبيت هويته أمام هذا الزخم من التيارات والممارسات، التي هي أيضا تنهل من نفس المناهل الفكرية والدينية التي يعتقد انه تأسس على أصولها. وفي الماضي كان من السهل على النظام أن يكتفي بشعار الدولة الإسلامية في بيئة عربية تختلف عما هو في طور البزوغ حاليا، ولكنه اليوم في صدد منافسة من الهويات الجديدة على ماهية النظام ومنابعه وآليات عمله ومدى اقترابه من منظومة الدولة الحديثة التي لا تقضي على خلفيات عقدية أثنية أو طائفية، بل تحاول أن تحتضن الاختلاف والتعددية. وان قدر للمشاريع العربية أن تكتمل وتنضج فستكون معيارا جديدا ينافس في شرعيته وهويته الكيان السعودي الذي حتى هذه اللحظة لم يطور أي مؤسسات حديثة لممارسة السياسة وتدبير الشأن العام خارج إطار مفاهيم حكم قديمة قائمة على الاستئثار بالسلطة التي تخضع لها كافة مؤسسات الدولة من مالية وقضائية وتربوية واجتماعية وتحكم عن طريق حلقات الولاء المشخصنة وتبني مفهوم محدود للمواطنة مبني على الولاء المطلق لشخص الحاكم وليس لوطن أو دولة مؤسسات.
لكن يبدو أن إسقاط شعار الدولة السلفية لن يحل أزمة النظام السعودي الوجودية، حيث يبدو يوما بعد يوم وكأنه خارج إطار الزمان والمكان في منطقة عربية تموج فيها مصطلحات جديدة عن الحقوق والمؤسسات والتمثيل الشعبي وفصل السلطات وكلها يحاول النظام السعودي أن لا تصبح متداولة في محيطه، خاصة إن امتزجت هذه المفاهيم الجديدة بنبش للتراث الإسلامي واستلهام المبادئ من تاريخه القديم في محاولة تقريب الإرث الماضي مع متطلبات اللحظة التاريخية الحالية. وبعد أن تبنى النظام السعودي مصطلح السلفية كهوية تتردد على السنة المسؤولين لا بد من طرح السؤال الحرج. عن أي سلفية يتحدث، خاصة بعد أن تشظت وتفرعت تياراتها؟ وان كان يقصد تياره الموالي فلا نعتقد أن المرحلة الحالية بكافة انجازاتها ومخاضاتها مهيأة لتقبل تيار ضيق همه الأول المحافظة على صلاحيات من أهمها التقييد على البشر في حياتهم وحرمانهم من ابسط حقوقهم المدنية والسياسية تحت ذريعة درء الفتن.
 د. مضاوي الرشيد

الثلاثاء، 13 مارس 2012

الجندر: المفهوم و الحقيقة و الغاية


     خَلَق الله سبحانه وتعالى الإنسان مِن ذَكَر وأُنثى ليحقِّقَ التكاملَ بين رُكنَين هامَّين من أركان إعمار هذا الكوْن بل هما الرُّكنان الأساسيَّان اللذان عُمِّر بهما ومن أجْلهما هذا الكونُ وهذه الأرض قال تعالى سبحانه: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة: 22.
هذا التكامُل ليس حالةً خاصَّة بالإنسان تعْزِله عن سُنَّة الخلق، والسياق الكوني، بل هي حالة تنسجم مع ثنائية تعمُّ وتشمل المخلوقاتِ في هذا الكون، والتي يتحقَّق بها التوازن والاتِّزان، فسبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ق 7 وتَمضي سُنَّة الله في هذا الكون، وهي تكاد تعمُّ لتشملَ كلَّ المخلوقاتِ في هذا الكون الفسيح، الذي يحمل أعظمَ المعاني على عظمة الخالِق البارئ
المصور سبحانه. الذي يقول جلَّ من قائل (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الرعد 3
     فهذه الثنائية الرائعة تمتدُّ، وتعمُّ وتشمل الوجودَ المادي، والوظائفَ الفسيولوجية، والبيولوجية والفيزيائية للمخلوقات؛ وصولاً إلى أرْقى شكل من أشكال الوجود في هذا الكون، والذي يتربَّع عليه الإنسان بمنظوماته القِيميَّة والاجتماعية والثقافية، والتي تلقَّاها من ربِّ العالمين - سبحانه وتعالى - بمعرفةٍ عجزتِ الملائكة عن الوصول لها؛ {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا
سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) البقرة 31
     هذه المعرفة والإدراك الإيماني السائر على دَرْب الهِداية مُحارَب بغَواية إبليس اللعين عدوِّ الإنسان، الذي أقسم حسدًا وحِقدًا على الإنسان ليُحيدَه عن طريق الصواب، ويأخذه إلى دروب الهلاك، وخزي الدنيا والآخرة يُعمِي بصيرتَه عن الحقيقة القرآنية، ويوهمه بخيالات من الكَذِب الذي يُزيِّنه له بأنَّه حقيقة، ويجملها بكلِّ ما يملك من زُخرف فكري كاذب، فيضل الإنسان، ويظلُّ يُكابِر ويقدِّم خِدْماتِه لولي نعمته إبليس اللعين، ويتحوَّل من خاضع للضلالة إلى شخص مفتون بها، ويُضلُّ بها كثيرًا من الناس؛ ليبوءَ بذنبه وذنوبهم.
    
ما دفعني للحديث بهذه المقدِّمة هو تهيئةُ القلوب والأذهان لِمَا سأعرضه من أفكار حولَ قضية يتمُّ الحديث عنها، وتُتداول بفَهْم أو غير فهم، وتُسوَّق بين أبنائنا وبناتنا - خصوصًا الشبابَ - بقصد أو غير قصد، وحتى لا أكتمَ علمًا تعلمتُه أو أعلمه، فأُلْجِم بلجام من نار يومَ القيامة فإني أتناول هذه القضية لأوضح بعض الحقائق المتعلقة بها.
     الرجل والمرأة هما ذكر وأنثى من ناحية التعريف الجِنسي، لهما حسب المصطلح الإنجليزي sex ، يتم وصفُ الصِّفات البيولوجية والفسيولوجية لكلٍّ منهما، وهي صفات واضحة وثابتة، ولا يمكن العبثُ بهما، عِلمًا بأنَّه كانت هناك محاولاتٌ للتغيير في هذه الفسيولوجية بالنسبة للرجل والمرأة، فكانت النتيجةُ إنتاجَ مسوخ بشرية من المتحوِّلين جنسيًّا أو التحولات.
     وأمام هذا العجز في التغيُّر فيما خَلَق ربُّ العالمين الذكر والأنثى، وقف دعاة المساواة المطْلقة بين الرجل والمرأة عاجزين أمامَ هذه الحقيقة الواضحة، غير القابلة للتغيير والعبث، ظهر في السبعينيات مِن هذا القرن مصطلحُ النوع الاجتماعي، أو الجندر، ومفهوم الجندر Gender كلمة إنجليزية تنحدر من أصل لاتيني، وتعني في الإطار اللغوي Genus ؛ أي: (الجنس من حيثُ الذكورة والأنوثة)، وإذا استعرْنا ما ذكرتْه (آن أوكلي) التي أدخلتِ المصطلح إلى عِلم الاجتماع، سنجد أنَّها توضح أنَّ كلمة Sex أي: الجنس، تشير إلى التقسيم البيولوجي بين الذكر والأنثى، بينما يشير النوع Gender إلى التقسيمات الموازية وغير المتكافئة (اجتماعيًّا إلى الذكورة والأنوثة)، ولديها كتاب عن هذا عنوانه (الجنس و النوع و المجتمع عام 1972 بشكل أكثر وضوحًا، فإنه كما أوضحْنا: أنَّ الفروق الفسيولوجية بين الرجل والمرأة لا يمكن إنكارُها، كما لا يمكن العبث بها، وبالتالي فهي تقف كعلامة استفهام كبيرة أمامَ دعاة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة.
ومِن هنا تمَّ التركيز على (الجندر)، أو النوع الاجتماعي، لأنَّه يوضِّح الفروق بين الرجل والمرأة على صعيد الدور الاجتماعي، والمنظور الثقافي والوظيفة، تلك الفروق النابعة كنِتاج لعوامل دِينيَّة وثقافيَّة، وسياسية واجتماعية؛ أي: إنها فروق صَنَعها البشر عبرَ تاريخهم الطويل، حسب مفهوم الجندر.
     ومن هنا، إذا عجز البشر عن إزالة الفروق البيولوجية، فمِن الممكن إزالةُ الفروق النوعية (الجندرية) بين الرجل والمرأة، وذلك مِن خلال برامجَ تنمويةٍ تعمل على تغيير قِيمي و بنيوي داخل المجتمع، و يكفل إزالة هذه الفروق.
     ومِن القضايا التي تحاول البرامجُ (الجندرية) التصدِّي لها: الوظيفة الاجتماعية للرجل والمرأة، على افتراض أنَّ الرجل يُهيمِن على المرأة، ويمارس قوَّة اجتماعيَّة وسياسية عليها ضِمنَ مصطلح المجتمع الذُّكوري، وبالتالي يجب منحُ المرأة قوَّة سياسيَّة واجتماعيَّة واقتصادية تساوي القوةَ الممنوحة للرجل في جميع المستويات حتى في الأسرة.

     و قد عرفت الموسوعة البريطانية الجندر"هي شعور الإنسان بنفسِه كذَكَر أو أنثى... ولكن هناك حالاتٌ لا يرتبط فيها شعور الإنسان بخصائصه العضوية، ولا يكون هناك توافُق بين الصِّفات العضوية وهُويته الجندرية، إنَّ الهُوية الجندرية ليستْ ثابتة بالولادة؛ بل تؤثِّر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهُوية الجندرية، وتتغيَّر وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية، كلما نما الطفل"
          الجندر حسب تعريف منظمة الصحة العالمية:
     هو المصطلح الذي يُفيد استعماله وصفَ الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصِفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العضوية وكما جاءت في (المادة الخامسة) من (السيداو) وهي المادة التي تطالب - وبشدة - بتغيير الأنماط الاجتماعيَّة والثقافية لدَور كلٍّ من الرجل والمرأة؛ بهدف تحقيق القضاء على التحيُّزات والعادات العُرفية.
     وقد ورد تعريف (الجندر) حسبَ المنشور في أحد المواقع النسوية العربية على الشبكة الإلكترونية كما يلي: "النوع الاجتماعي (الجندر) يتعلق بالأدوار المحدَّدة اجتماعيًّا لكلٍّ من الذكر والأنثى، وهذه الأدوار تكتسب بالتعليم وتتغيَّر مع مرور الزمن، وتختلف اختلافًا واسعًا داخلَ الثقافة الواحدة، ومِن ثقافة لأخرى، وهذا المصطلح يشير إلى الأدوار والمسؤوليات التي يُحدِّدها المجتمع للمرأة والرجل، وهو يعني أيضًا الصورة التي ينظر بها المجتمعُ للمرأة والرجل، وهذا ليس له عَلاقة بالاختلافات الجسديَّة (البيولوجية والجنسية.) هذا، ويتمُّ تبديلُ مصطلح منْح المرأة القوَّة power بمصطلح تمكين empower medn لتوصيف الأنشطة المتعلِّقة بإزالة الاختلافات الاجتماعيَّة والثقافيَّة والوظيفيَّة كافَّة بين الرجل و المرأة."
     ونحو تحقيق إزالة الفروق الوظيفية بين الرجل والمرأة، فإنَّ الأمومة تأخذ حيزًا كبيرًا عند الجندريين، فعالمة الاجتماع (أوكلي) تقول: "إنَّ الأمومة خُرافة، ولا يوجد هناك غريزة للأمومة، وإنما ثقافة المجتمع هي التي تصنع هذه الغريزة؛ ولهذا نجد أنَّ الأمومة تعتبر وظيفة اجتماعية وهنا يظهر مصطلح "الصحة الإنجابية" وهو - حسب المنظور الجندري  ليس كالمفهوم العالمي له، والهادف إلى معالجة الإشكاليات الناتِجة من وظيفة المرأة كأمٍّ على مستوى الإنجاب، والتي قد تقف عائقًا أمام ممارستها لدَوْرها الجندري المساوي لدور الرجل، ومِن هذه الإشكاليات الحملُ والرَّضاعة، وغيرها من الوظائف الفسيولوجية للمرأة، كما أنَّ هذا المفهوم أثار ضجَّة على مستوى عِدَّة مؤتمرات بهذا الخصوص، حيث أبدتْ بعض الدول المشارِكة تحفُّظاتٍ عليه، عندما وُجِد بأنَّه يشرع الإجهاض.
وكما جاء في التقرير الذي أعدتْه (لجنة المرأة) التابعة للأمم المتحدة؛ لمناقشته في اجتماعها المنعقِد في 12/مارس / 2004، الذي ناقش محورين خاصَّين باشتراك الرِّجال والصِّبية في تفعيل مساواة النوع Gender Equality ، وأيضًا استخدام اتفاقيات السلام في تفعيل مساواة النوع.
     وقد لوحظ أنَّ الترجمة العربية للتقرير لم تشتملْ على البنود الخاصة بالاعتراف الرسمي بـ(الشذوذ وحماية حقوق الشواذ)؛ بل والسعي لقَبولهم مِن قِبل المجتمع، وتشجيع الشباب على ممارسة الزِّنا والجهر به، واعتبار ذلك تعبيرًا عن (المشاعر)، ودعمًا لتعليم الممارسة الجنسية بمختلف أشكالها الطبيعية و الشاذة.
     انظروا على سبيل المثال كتاب "الأسرة وتحديات المستقبل" من مطبوعات الأمم المتحدة (صفحة: 36 - 42)، وفيه يجد الباحثُ الاجتماعي أنَّ الأسرة يمكن تصنيفها إلى 12 شكلاً و نمطا و منها أسر الجنس الواحد، أي أسر الشواذ.
     وبالتالي فإنَّ ذلك نتاجٌ طبيعي لأنشطة الجندريين التي تهدف إلى إزالة الاختلافات الثقافية، والاجتماعية، والوظيفية، بين الرجل والمرأة، تحتَ شعارات المساواة، وتمكين المرأة، وتمكين الشباب...إلخ.
     هذه الدعوات والبرامج مهما كانت أهدافُها وغاياتها، إلاَّ أنَّها تتنافَى والفطرةَ التي خلق الله عليها الإنسان رجلاً وامرأة، وتصطدم - وبشكل سافر - بعقيدتنا ودِيننا الذي نؤمن به، تلك العقيدة التي ترتكز على أنَّ الإنسان الذي خَلقَه الله ربُّ العالمين مِن زوجين اثنين؛ آدم وحواء - جزءٌ من الثنائية المتناغمة في هذا الكون، والذي يحقِّق بها التوازن، والثبات والأعمار.
     هذه الحقيقة التي أقرَّها الله في شريعته، وأنزلها على أنبيائه الذين علَّموها للبشر، شرائع ونواميس تنظِّم الحياة الإنسانية، وتُحافِظ على إنسانية الإنسان الذي كرَّمه الله، وأمر الملائكة بالسجود له، وتتكفَّل له بطريق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة؛ (ُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 136
هذا الدِّين الذي نؤمِن به رجالاً ونساءً جَعَل العلاقة بينهما علاقةَ مودة ورحمة وسكن، تُبنَى فيه الأُسرة التي هي النواة الأولى في بناء الفرْد والمجتمع، والدولة والأمَّة، ونؤمِن بأنَّ كل ما جاء به هذا الدِّين هو حقٌّ، وإن لم يكن لنا فيه نفع ظاهر، فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - له فيه حِكمة قد لا ندركها كبَشَر في مكانٍ ما وزمان ما؛ قال - سبحانه وتعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) النساء: 34 فهم قوَّامون على النساء، ولكن بضوابط وضَعَها الشرع؛ حفاظًا على هذه المرأة، التي هي مخلوقة من مخلوقات ربِّ العالمين، حالُها كحال الرجل فكيف يظلم الله تعالى مخلوقا خلقه؟
      فإذا كان الرجل قوَّامًا على المرأة، فإنَّ النساء كُرِّمن بسورة خاصَّة بهنّ، فيها من الضوابط والأحكام ما فيه؛ حفاظًا على كرامة المرأة وإنسانيتها، وحقوقها الاقتصادية
و الاجتماعية و الشرعية.
     ما أتمنَّاه لكلِّ امرأة معذَّبة مضللة، تسعى نحو وهمٍ كاذب في الحرية التي فيها عبوديتها وهلاكها حالها حال الفراشة الحائمة حول نور المصباح.
     إنَّ رب العالمين خصَّ مريم بنتَ عمران بتكريم ربَّاني، وتطهير وتزكية، وهي امرأة.
هذا الدِّين الذي أقرَّ الاختلاف ليس تفضيلاً للرجل على المرأة، بل تفضيل لكلٍّ منهما على الآخر في كلِّ مجال من مجالات الاختلاف؛ قال تعالى {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إنّ الله كان بكل شيء عليما) النساء 32
     هذا الدِّين الذي أقرَّ الاختلافات بين الرِّجال والنساء، ونهانا عنها تربيةً لنا رجالاً ونساء؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (لَعَن الله المتشبهين من الرّجال بالنساء، و المتشبهات من النساء بالرّجال)
     وهذا الدِّين الذي أوصانا بالنِّساء خيرًا، فجعل مَن يكرمهنَّ هو الكريم، وأمرنا بالرِّفق بالقوارير، فقد كان آخِرُ كلام نبينا الحبيب - صلوات الله عليه وسلم: (أوصيكم بالنِّساء خيرًا.)
     فإذا كانت الدعوات الكاذبة لأصحاب الفِكر الفاسد، والقلوب الخَرِبة، والنفسيات المشوهة، ذكورًا وإناثًا، وإن حاولوا أن يُغلِّفوها بغلاف من الزيف، ويُزيِّنوها بدعوات كاذبة، وشعارات رنانة؛ بدعوى السعي للدِّفاع عن حرية المرأة، أو تخليصها مِن ظُلم يقع عليها، أو تفعيل دورها في المجتمع....إلخ، وهي دعواتٌ كاذبة، تُغطَّى بستار من الضلالة، الغاية النهائية للمروِّجين والمروِّجات لأفكار (الجندر) بكل ما يحمل من تقليعات ومسميات من جندرة اللغة، وجندرة السياسة وجندرة الأدب، وجندرة الأُسرة، وجندرة الاقتصاد...إلخ مما أفرزته العقلياتُ المريضة، والنفسيات المشوهة المسيطرة في مؤتمرات بِكين والقاهرة، وصنعاء وروما، من أفكار رفضتها معظمُ الدول المشارِكة في هذه المؤتمرات؛ لأنَّها تتنافَى والفطرة .ونرفضها نحن بقلوبنا، بعقولنا، بألسنتنا، وبكلِّ ما أوتينا من قوَّة؛ لأنها إذا كانت تتنافى مع الفطرة، فهي تصطدم بمعتقداتنا و ديننا الإسلامي، و قيمنا الأصلية.
     وهو رفضٌ لا يحمل شبهةَ الوقوف في وجه حقوق المرأة؛ بل هو رفضٌ يحافظ على المرأة، ويضعها في المكانة السامية التي اصطفاها لها ربُّ العالمين، بأقدس رسالة، وهي الأمومة التي رفعتْ درجتَها في الدِّين والدنيا ثلاثة أضعاف درجةِ الرجل؛ ((قال: أمك، ثم مَن؟ قال: أمك، ثم مَن؟ قال: أمك، ثم مَن؟ قال: أبوك))، هذا الاصطفاء الذي لم يقف عائقًا في وجه المرأة لأن تكونَ شاعرة وفارسة وممرِّضة، فتحتَ جناح هذا الدِّين ترعرعت النِّساء، وسجلنَ للتاريخ أسمى أمثلة، وفي شتَّى المجالات، في التمريض كانت الصحابية رُفيدة، ونَسِيبة بنت كعب الفارسة، عنها يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما التفتُّ يومَ أُحد يمينًا ولا شِمالاً إلاَّ وأراها تقاتل دوني))، وفي الطبِّ كانت الطبيبة المداوية الشِّفاء بنت عبدالله، وعلى هُدَى القرآن الكريم ودَرْب المصطفى إلى يومِنا هذا، كم مِن نَسيبة بنت كعب، وكم من الشفاء بنت عبدالله، ترعرعن في كنف أُسرة قامتْ على أساس مِنَ السكن والسكينة، وكان بين ركنيها - الرجل والمرأة - المودة والرحمة، وليس الصِّراع القائم على مفاهيمَ تناحرية مِن منطلق اعتقاد المرأة بأنَّ دورها في الأسرة عِبارةٌ عن اضطهاد لها، ويجب أن تُصارِع مضطهدَها؛ لتنتصرَ عليه، وإن لزم الأمرُ تبحث عن القوَّة والتمكين من خارج الأسرة و الجندريون جاهزون.
     الحمد لله الذي أكرمنا بهذا الدِّين، يحترم آدميتَنا، ويُخرجنا من عبادة العِباد إلى عبادة ربِّ العباد، وأكرمنا بأن جعلنا مسلمين موحدين، وشرَّفَنا بأشرف الخَلْق محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - النبي الأمين، وشرَّفنا بالقرآن الكريم؛ حُجَّة على الكافرين والفاسقين إلى يوم الدِّين.
منقول

الأحد، 11 مارس 2012

رأي الشيخ يوسف القرضاوي في النقاب


     بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد:
   فالواقع أن وصف النقاب بأنه بدعة دخيلة، وأنه ليس من الدين ولا من الإسلام في شيء، وأنه إنما دخل على المسلمين في عصور الانحطاط الشديد ـ الواقع أن هذا الوصف غير علمي، وغير موضوعي، وهو تبسيط مُخِلٌّ بجوهر القضية، ومُضَلِّلٌ عن تَبَيُّنِ الموضوع على حقيقته.
فمما لا يُمارِي فيه أحد يَعْرِفُ مصادر العلم وأقوال العلماء: أن القضية خلافية، أعني قضية جواز كشف الوجه أو وجوب تغطيته ـ ومعه الكفان أيضًا.
   وقد اختلف فيها العلماء ـ من فقهاء ومفسرين ومُحدِّثين ـ قديمًا، ولا يزالون مختلفين إلى اليوم.
وسبب الاختلاف يرجع إلى موقفهم من النصوص الواردة في الموضوع ومدى فهمهم لها، حيث لم يَرِدْ فيه نَصٌّ قطعيٌّ الثبوت والدِلالة، ولو وُجِدَ لحُسِمَ الأمر.
فهم مختلفون في تفسير قوله ـ تعالى ـ: (ولا يُبدِينَ زِينتهُنَّ إلا ما ظَهَرَ منها) (النور: 31).
فرَوَوا عن ابن مسعود أنه قال: (إلا ما ظهر منها): الثياب والجلباب، أي الثياب الخارجية التي لا يُمكِن إخفاؤها.
ورووا عن ابن عباس أنه فَسَّر: (ما ظهر منها) بالكُحل والخاتَم.
ورُوي مثلُه عن أنس بن مالك.وقريب منه عن عائشة.
وأحيانًا يُضيف ابن عباس إلى الكُحل والخاتم: خِضابُ الكَفِّ، أو المُسْكَة ـ أي السِّوار ـ أو القُرط والقِلادة.
وقد يُعبر عن الزينة بموضعها، فيقول ابن عباس: رُقعة الوجه وباطن الكف، وجاء ذلك عن سعيد بن جبير وعَطاء وغيرهما.وبعضهم جعل بعض الذراع مما ظهر منها.
وفَسَّر ابن عطية ما ظهر منها: أنه ما انكَشفَ لضرورة، كأن كَشَفَتْه الريح أو نحو ذلك (انظر: تفسير الآية عند ابن جرير وابن كثير والقرطبي، والدر المنثور: 5/41، 42، وغيرها.).
وهم مختلفون في تفسير قوله ـ تعالى ـ: (يا أيها النبي قُل لأزواجِك وبناتِك ونِساءِ المؤمنينَ يُدْنينَ عليهنَّ مِن جَلابيبهنَّ، ذلك أَدْنَى أن يُعرفْنَ فلا يُؤذَينَ، وكان اللهُ غفورًا رحيمًا) (الأحزاب: 59).
ما المراد بإدناء الجلابيب في الآية الكريمة؟
فرووا عن ابن عباس نقيضَ ما رُوي عنه في تفسير الآية الأولى!!
ورووا عن بعض التابعين ـ عبيدة السلماني ـ أنه فسر الإدناء تفسيرًا عمليًّا بان غَطَّى وجهَه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى!! ومثله عن محمد بن كعب القرظي.
وخالفهما عِكرمة مولى ابن عباس: فقال: تُغطِّي ثغرة نحرها بجلبابها، تُدنيه عليها.
وقال سعيد بن جبير: لا يَحِلُّ لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شَدَّتْ به رأسها ونَحْرَها (انظر:الدر المنثور: 5/221، 222، والمصادر السابقة في تفسير الآية.).
وأنا ممن يُرجِّحون أن الوجه والكفين ليسا بعورة، ولا يَجب على المسلمة تغطيتُهما، وأرى أن أدلة هذا الرأي أقوى من الرأي الآخر.
ومعي في هذا الرأي كثير من علماء هذا العصر، مثل الشيخ ناصر الدين الألباني في كتابه (حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة)، وجمهور علماء الأزهر في مصر، وعلماء الزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، وغير قليل من علماء باكستان والهند وتركيا وغيرها.
ولكن ادِّعاء إجماع علماء العصر على هذا ليس صحيحًا، فمن العلماء في مصر من يعارض هذا القول.
وعلماء السعودية وعدد من بلاد الخليج يُعارضون هذا الرأي، وعلى رأسهم العالم الكبير الشيخ عبد العزيز بن باز.
وكذلك كثير من علماء باكستان والهند، يخالفونه، ويرون أن على المرأة أن تُغطي وجهها.
ومن أشهر الذين قالوا بذلك من كبار علماء باكستان ودُعاتِها: المجدد الإسلامي المعروف الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه الشهير: (الحجاب).
ومن المعاصرين الأحياء المنادين بوجوب تغطية الوجه الكاتب الإسلامي السوري المعروف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، الذي أصدر في ذلك رسالة (إلى كل فتاة تؤمن بالله).
وهناك رسائل وفتاوى تظهر بين الحين والحين، تُنَدِّد بكشف الوجه، وتُنادِي الفتيات باسم الدين والإيمان، أن يَلتزِمنَ النقابَ، ولا يَخضَعنَ للعلماء (العصريين) الذين يُريدون أن يُطَوِّعُوا الدين للعصر، ولعلهم يَجعلونَني منهم!!.
فإذا وُجد من بنات المسلمين من تَقتنِعُ بهذا الرأي، وترى أن كشف الوجه حرام، وأن تغطيته فريضة، فكيف نَفرِضُ عليها الرأي الآخر، الذي تراه هي خطأً، ومخالفًا للنص؟
إنما نُنكِر عليها حقًّا إذا رأتْ أن تَفرِضَ هي رأيها على الآخرين أو الأخريات، وأن تَحكُمَ بالإثم أو الفِسْقِِ على كل من عمل بالرأي الآخر، وتَعتبِر هذا منكرًا يَجب محاربتُه، مع اتفاق المُحقِّقين من العلماء على أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية الخلافية.
ولو أنكرنا عليها نحن العمل بالرأي الذي يُخالف رأينا ـ وهو رأي مُعتبَر داخل نطاق الفقه الإسلامي الرحب ـ لوقعنا نحن في المحظور، الذي نُقاوِمه وندعو إلى التحرر منه، وهو إلغاء الرأي الآخر، وعدمُ إعطائه حَقَّ الحياة، لمُجرد أنه يُخالفنا أو نُخالفه.
بل لو فُرض أن هذه المسلمة لا تَرى وجوب التغطية للوجه، وإنما تراه أورع وأتقى، خروجًا من الخلاف، وعملاً بالأحوط فقط، فمن ذا الذي يَمنعها من أن تأخذ بالأحوط فقط، فمن ذا الذي يمنعها من أن تأخذ بالأحوط لنفسها ودينها؟ وكيف يُسَوَّغ أن تُلامَ على ذلك ما دام هذا لا يؤذي أحدًا، ولا يَضُرُّ بمصلحة عامة ولا خاصة؟
فلم يقل أحد من علماء المسلمين في القديم أو الحديث بتحريم لبس النقاب على المرأة بصفة عامة، إلا ما جاء في حالة الإحرام فحسْب.
إنما اختلفوا فيه بين القول بالوجوب، والقول بالاستحباب، والقول بالجواز.
أما التحريم، فلا يُتصوَّرُ أن يقول به فقيه، بل ولا الكراهية، وقد عَجِبتُ كُلَّ العجب مما نشره أحد الكتاب من كلمات لبعض الأزهريين الذين قالوا: إن القول بتغطية الوجه تحريم لما أ‍َحَلَّ الله، وهو قولُ مَن ليس له في الكتاب والسنة أو الفقه وأصوله قَدَمٌ راسخة!
ولو كان الأمر مجرد مباح ـ كما هو الرأي الذي أختاره ولم يكن واجبًا ولا مُستَحَبًّا ـ لكان من حق المسلمة أن تُمارِسه، ولم يَجُزْ لأحد أن يَمنعها منه؛ لأنه خالصُ حقها الشخصي، وليس في ممارسته إخلال بواجب، ولا إضرار بأحد.
والدساتير الوضعية نفسها تُقرِّر هذه الحقوق الشخصية، وتحميها، كما تحميها مواثيق حقوق الإنسان.
وكيف نُنكِر على المسلمة المتديِّنَة أن تَلبَس النقاب، مع أن من زميلاتها من طالبات الجامعة، من تلبس الثياب القصيرة ـ والمبالغة في القصر ـ والشَّفَّافَةَ والمُجسِّمَة للمَفاتِن، وتضع من (ألوان المكياج) ما تَضع، ولا يُنكِر عليهن أحد، باعتبار أن هذا من الحرية الشخصية! مع أن هذا اللباس الذي يَشِفُّ أو يَصِفُ، أو لا يُغطِّي ما عدا الوجه واليدين والقدمين من الجسم، مُحَرَّم شرعًا بإجماع المسلمين؟!
ولو مَنع هذا مانع من المسئولين في الجامعة، لأيَّده الشرع والدستور الذي نص على أن دين الدولة (الإسلام)، وأن أحكام الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
ومع هذا لم يمنعه أحد.
فيا عجبًا كيف تُترَك الحريةُ للكاسيات العاريات، المميلات المائلات، ولا يَتعرَّض لهن أحد ببنتِ شَفَةٍ، كما يقولون، ثم يُصَبُّ جَامُّ السُّخْطِ كله، واللوم كله، على ربَّاتِ النقاب، اللائي يَعتقدن أن ذلك من الدين الذي لا يَجوز التفريط أو التساهل فيه؟
فلِلَّهِ الأمر من قبلُ ومن بعدُ، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
والله أعلم.
الفتوى منشورة في الجزء الثاني من كتاب فتاوى معاصرة للشيخ القرضاوي.



الأحد، 4 مارس 2012

قصة زاهد في القرن الواحد و العشرين

وصلتني رسالة الكترونية من الأخ الفاضل أحمد أبو رتيمة يستعرض بعض الانطباعات خلال زيارته لتونس و التقائه ببعض قياديي حركة النهضة و ما عانه مناضليها في حكم المخلوع بن علي كما كشفت هذه المعاناة الصدق و الصبر و التمسك بالحق و بالإسلام كمنهج حياة أنشر فيما يلي فحوى هذه الرسالة
زرت المغرب وتونس خلال الأسبوع الماضي بغرض التواصل مع شركائنا في مناصرة القضية الفلسطينية للتباحث في سبل مشاركة أقطار المغرب العربي في إنجاح مسيرة القدس العالمية التي ستنظم في 30 من شهر مارس الجاري، فأجريت اتصالات كثيرة والتقيت شخصيات مهمة في البلدين، وكانت تلك اللقاءات مهمة ونافعة كلها، والأشخاص الذين لقيتهم فضلاء محترمون جميعهم، ولكن أقول بلا مبالغة بأنني لم أسمع حديثا هز كياني وبلل مقلتي وانتفعت به نفعا لا يعادله شيء في أسفاري هذه كالحديث الذي سمعته عن الأستاذ صالح بن عبد الله بوغانمي التونسي. كل الذين التقيتهم في البلدين الشقيقين معروفون وقد صاروا اليوم بعد نجاحهم أعلاما، ولكن سي صالح غير معروف عند عموم الناس. ولئن كان الحديث عن أولئك السادة المشهورين مفيدا فإن الحديث عن مثل هذا الرجل المغمور أفيد حتى يعلم الناس بأن في الأمة أخيارا،       وقادة المشروع الإسلامي رجالا تُستمطر بهم الرحمات وينزل بهم النصر و التمكين، لا يعرفهم أحد و لا ينتبه لفضلهم إلا القليل. صالح بن عبد الله بوغانمي قائد من قادة حركة "النهضة" واصل دراسة القانون في أرقى الجامعات الفرنسية ونال فيها أعلى الشهادات، وبعد عودته لتونس صار قاضيا مُبجّلا ومحترما بين أقرانه، وحينما انتبه إليه الحاكم المستبد ألقى عليه القبض وأدخله السجن ولكنه لم يجد قاضيا يحكم عليه الحكم القاسي الذي يريده للهيبة التي كان يتمتع بها الرجل في سلك القضاء وبعد سنة ونيف أُطلِق سراحُه ولكنه حوصر في رزقه فطُرِد من العمل نهائيا ولم يُمكّن من أي وظيفة أخرى تحفظ له كرامته وكرامة أسرته. لقد جعل هذا الظلم صالحا في وضع رجل بطال صالح فقير لا يملك شهادة و لا خبرة عليه أن يتدبر حاله لكي يعيش ... ليأكل و يشرب فحسب.

      قرر سي صالح أن يعمل أي عمل يكسب به شيئا من المال الحلال حتى لا يصبح عالة على الناس يعطونه يوما ويحرمونه يوما، أو ربما لكي لا يتسبب في معاقبة من تسول له نفسه أن يعينه. رضي عالم القانون وخريج الجامعات الأوروبية والقاضي المحترم أن يزاول عملا لا يخطر على البال، أصبح سي صالح يترقب الأسواق حتى تنفض فيعمد إلى جمع ما يتركه الباعة على الأرصفة والطرقات من كراتين وبضائع فاسدة فيفرزها وينظفها ثم يبيعها بما يفتح الله به. وبعد سنوات من الكد في هذا العمل، الذي يفضل كثير من فقراء اليوم أن يتسولوا ويتشردوا ولا يعملونه، استطاع أن يشتري عربة صغيرة تجرها دراجة نارية يحمل عليها خضرا وفواكه يشتريها من أسواق الجملة ويبيعها خفية عن أعين الشرطة المتربصة. لم يكن الحاكم المستبد و شرطته يكترثون لما يفعله القاضي لكي يعيش في بداية الأمر، بل ربما كان الطاغية الساديُّ يتلذذ بذلك... أن حول عالما مرموقا إلى مشتغل في الزبالة وبائع خضر.
     في الوقت الذي كان سي صالح يكابد عناء الظلم والفقر كان أغلب قادة "النهضة" و مناضليها في السجن أو في المهجر، فاتفق من بقي منهم في تونس خارج السجن على تعيينه رئيسا لتنظيمهم السري، وكانت مهمة التنظيم تتعلق خصوصا بالرعاية الاجتماعية لأسر المسجونين والمهجرين وقضايا حقوق الإنسان والاتصالات والعلاقات السياسية الممكنة. تواصلت رئاسة صالح بوغانمي لهذا الإطار التنظيمي من 1991 إلى غاية 2004 دون أن يكشف البوليس السياسي أمره، وكانت تصله أثناء ذلك مساعدات مالية من تنظيم "النهضة" في المهجر ليوزعها على المعنيين بها. كان سي صالح من هؤلاء المعنيين، وكان من حقه أن يأخذ لنفسه قسطا من ذلك المال، بل كان هذا واجبه، فمآسيه كلها بسبب انتمائه وثباته على فكرته، ولو فعل ذلك ما لامه أحد. لم يفعل هذا الأمين الزاهد ذلك، لقد فضل أن يكون فقيرا يعيش من عمل يديه لم تحدثه نفسه بأنه هو ذلك
الدكتور الذي وطئت قدماه الصروح العلمية الراقية، وجلجل صوته في المحاكم و قصور العدالة فكيف يقبل أن يكدح كدح المساكين والمال جار بين يديه، يوزعه على الناس ولا يأخذ منه شيئا.

     كان محدثي عبد الكريم سليمان أحد أعضاء المكتب الجديد في "النهضة" متأثرا جدا وهو يقص علي هذه القصة على مائدة الغداء في مطعم دار الجلد الفاخر الملتصق بمقر رئاسة الحكومة الذي لا تُحكى فيه مثل هذه القصص عادة. لقد كان عبد الكريم رفيق سي صالح في القيادة داخل تونس في تلك الفترة كلها ورأى معاناته وتعففه بنفسه. حاولت أن أهون عليه بأن أخذت منه الكلمة حين تحجرجت الكلمات في حلقه، وبدأت أحدثه عن أهمية هذا النوع من الرجال في تثبيت الفكرة وثبات أهلها وعن الفائدة التربوية لذكر هذه القصص للأجيال، وأخذت أقص عليه قصة أخرى من هذا القبيل في سياق مختلف وبيئة مغايرة، فذكرت له حال رجل فاضل عندنا عيّنه إخوانه في مجلس الأمة دون استشارته فغضب غضبا شديدا، ولما عجز عن تقديم استقالته اعتبر ذلك بلاء نزل عليه من السماء وقرر أن لا يأخذ من راتبه كنائب سوى ما يعادل أجرته العادية كأستاذ جامعي، وبقي يتصدق بالباقي طيلة عهدته وبعدها.حينما سمع صديقي هذه القصة ازداد تأثرا وفاض الدمع في عينيه قائلا: "سأحكي لك ما هو أغرب" قال لي: "اتفقنا ذات يوم في مكتبنا السري بأن نجعل لسي صالح مُرتّبا شهريا على أن يتوقف عن جر عربة الخضار والتنقل بين الأسواق فرفض ذلك، ولما اتُّخِذ القرار بإجماع تام ناقص صوت واحد هو صوته، قال لنا بأنه لا بد أن يستمر في بيع الخضار بطريقة ما لفترة أخرى رغم هذه الأجرة، حتى لا ينتبه البوليس السياسي بأنه قد أضحى يأخذ أجرا من جهة ما فيضايقه وربما يُكشف أمر الجميع فاقتنعنا بذلك، فإذا بنا نكتشف ذات يوم أن ثمة محتاجين آخرين لم يكن هو المكلف بهم تصلهم المساعدات عن طريقه، فلما دققنا في الأمر علمنا بأن الأجر الذي يأخذه لا يستعمل منه شيئا و يعطيه كله لغيره
     في سنة 2004 أُطلِق سراح بعض قيادات حركة "النهضة" فقرر سي صالح أن يسلم لأحدهم المشعل بمبادرة منه، وبعد انتخابات داخلية سرية حل محله حمادي الجبالي -رئيس الحكومة الحالي- على رأس الحركة في داخل تونس، واستمر هو يناضل في القاعدة ويتردد على الأسواق يبيع الخضار للناس ويهب القدوة الصالحة للجميع. وفي يوم من أيام تونس الكالحة بالظلم والعابسة بالطغيان يكون فيها الطاغية قد شعر بشيء ما عن نضاله اعتدت عليه مجموعة من رجال الأمن بالضرب بحجة عمله غير المرخص له، ثم كبُرت القضية فحُكم عليه بست سنوات سجنا في المحكمة الابتدائية، وأثناء استئنافه للقضية وقبل النطق بالحكم النهائي تعرض شاب جامعي من سيدي بوزيد اسمه البوعزيزي لنفس الإهانة في قصة غريبة التشابه مع ما حدث لسي صالح فأحرق نفسه وأذن باندلاع الثورة التونسية و"بن علي هرب" وجرت الانتخابات ونجح المظلومون وصار المهجّرون والمضطهدون والمسجونون هم حكام تونس، وفُتحت دروبُ المجد وصُروحُ الحكم وبهارج السلطة والجاه لسي صالح ليختار منها ما يشاء وهو الأحق بها، لا يزاحمه على أبوابها أحد، ولا يُستغرب من اهتباله لها شيء،      يكون فيها الوزير بلا غرابه أو النائب بكل جدارة.... ولكنه لم يفعل.
     اختار صالح بن عبد الله بوغانمي التونسي أن يعود بكل طواعية للقضاء، وظيفته الأصلية فحسب. ربما يكون سي صالح قد فعل ذلك حبا لوظيفته، أو لتعفف في سجيته، أو ادخارا لأجره كله عند ربه، ولست أدري هل هو الذي حرم نفسه من منصب لم يأخذه أم المنصب الذي لم يأخذه هو المحروم، ولست أدري هل هو يدري بالبعد القيمي الذي أعطاه للعمل السياسي والشهادة التي أقامها على السياسيين من كل الآفاق، والآثار التربوية التي تركها صنيعُه في نفوس العاملين في الحقل الإسلامي في كل الأقطار... إنها الغاية التي كتبت من أجلها هذا المقال.
  

الأربعاء، 4 يناير 2012

المصطلحات القرآنية في إطار إنساني


القرآن له أسلوبه الخاص ومصطلحاته المتميزة، ومن أجل فهم صحيح للقرآن لا بد من فك شفرة هذه المصطلحات والتدقيق في المفاهيم التي تحملها حتى لا يساء إلى القرآن ويقدم وكأنه كتاب طائفي أو مذهبي أو قومي..
القرآن بطبيعته عالمي الطرح، يظهر هذا منذ الآية الأولى فيه "الحمد لله رب العالمين"..فالله حسب التصور القرآني ليس رب المسلمين وحدهم بل هو رب العالمين..وفي ضوء هذه الحقيقة فإن القضايا التي يعالجها القرآن هي قضايا إنسانية تهم الناس في مجموعهم، والمشكلات التي يطرحها القرآن قد تصيب أي إنسان من حيث كونه إنساناً بغض النظر عن جنسه أو قومه أو لونه، وحتى عن دينه الذي ورثه عن أبويه..
ربما يكون من أكثر المصطلحات القرآنية إثارةً للجدل في هذا العصر هو مصطلح الكفر الذي يأتي في مقابل الإيمان في مئات أو آلاف المواضع..فهل تصنيف الناس إلى مؤمن وكافر هو دليل طائفية وعنصرية وانغلاق على الذات، وهل لا يزال مثل هذا المصطلح مناسباً للاستعمال في عصر تتراجع فيه الأيديوجيات ويعلو فيه صوت المشترك الإنساني..
كيف لنا أن نقدم للعالم خطاباً إنسانياً معاصراً في الوقت الذي يقيدنا فيه القرآن بتصنيف كافر-مؤمن، وكيف نتعايش مع الشعوب والأمم بينما ننظر إليهم في قرارة أنفسهم بأنهم ضالون عن الصراط المستقيم..
هل المطلوب أن نتجرد من ذواتنا حتى نستطيع العيش في القرن الواحد والعشرين، أم أن المطلوب من المسلم خطاب مزدوج يحدث فيه العالم بلغة معاصرة حول العدل والحرية وحقوق الإنسان والمساواة، بينما يبطن في داخله ما يخالف هذه اللغة من اعتقاد بكفر الآخرين..
إن كثيرين يجدون في صدورهم حرجاً من الخطاب الديني في عصر الحضارة والتمدن، فتدفعهم حساسية المصطلحات القرآنية إلى التفريق بين نوعين من الخطاب هما الخطاب الديني والخطاب المدني، وجعلهما متناقضين فمن أراد أن يدخل العصر ويتواصل مع الناس فإن شرط ذلك أن ينبذ الخطاب الديني ويعتمد خطاباً مدنياً علمانياً..فهل الخطابان الديني الذي يصوغه القرآن، والمدني الذي يتحدث به العالم هما خطابان متناقضان لا سبيل للتوفيق بينهما، أم أن المشكلة هي في سوء فهمنا وتوظيفنا للمصطلحات القرآنية وإخراجها من إطارها الإنساني إلى إطار متعصب ضيق ؟
سنتناول مصطلح "كافر" في القرآن الكريم والسياق الذي يأتي فيه لنرى إن كانت المشكلة في المصطلح ذاته وعدم ملائمته لهذا الزمان، أم أن المشكلة هي في الركام الثقافي الذي أخفى الدلالة الأصلية للمعاني القرآنية..
بتأمل السياق القرآني الذي يتحدث عن صفة الكفر والكافرين نجد أنه يتناولها كمشكلة إنسانية يمكن أن يقع فيها أي واحد من البشر، فلا توجد قوالب جاهزة وأحكام تعميمية مسبقة بأن هذه الأمة أو هذا الشعب بأكمله كافر، فقضية الكفر والإيمان هي قضية فردية عائدة على كل إنسان حسب جهده الذاتي، وليست صفات متوارثةً بالجينات، فإذا صدف أن ولد إنسان في بلد مسلم فقد أهديت إليه هدية من السماء بأنه سيدخل الجنة وعليه بعد ذلك أن يأكل ويشرب وينام هادئاً مطمئناً دون بذل أي جهد، وإذا ولد شخص آخر في بلد غير مسلم كان مصيره الحتمي إلى النار و بئس المصير..
يلفت النظر في الأسلوب القرآني أن الحديث عن الكفر يأتي غالباً بصيغة الفعل وليس بصيغة الاسم، فالتعبير القرآني غالباً هو "الذين كفروا"، وليس "الكافرون"، والفعل يفيد الحركة على عكس الاسم الذي يفيد الثبات والالتصاق..أي أن الذين كفروا قد استحقوا هذه الصفة بأفعالهم الخاصة واختياراتهم الخالصة، ولم تكن صفةً قد ألصقت بهم، أو حكماً عاماً قد وصموا به، كما يحدث في تصنيفاتنا نحن البشر حين نصدر أحكاماً مسبقةً وعامةً على أحد الشعوب أو الأمم أو المذاهب..
حركية الكفر تعني أن كل إنسان يملك أن يقترب أو يبتعد منه بجهده الخاص، كما أنها تعزز اختيار الإنسان وتخرجه من حالة الجبرية والارتهان لقيود الثقافة والمجتمع، ففي أي موقف يمكن لأي إنسان أن يفعل فعلاً من أفعال الكفر أياً كانت بيئة هذا الإنسان وقوميته ودينه..
نفس الملاحظة نجدها في الاستعمال القرآني لكلمة مسلم، فهو يختلف كثيراً عن استعمالنا البشري لها، فبينما نستعمل كلمة مسلم كاسم علم يطلق على من ولد من أبوين مسلمين، وقام بالطقوس الإسلامية، فإن القرآن يستعملها استعمالاً حركياً بصيغة الفعل "بلى من أسلم وجهه لله"، وحين ينفي القرآن عن إبراهيم عليه السلام صفة اليهودية أو النصرانية ويثبت عليه صفة الإسلام فإنه لا يخرجه من دائرة ثقافية ليدخله في أخرى بل إنه يقصد تحرر إبراهيم من كل القوالب الأيديولوجية وإتباعه للحقيقة المجردة "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً"، فهو لم يكن إسلاماً بمعنى انتمائه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل بالدلالة اللغوية لفعل أسلم، والإسلام بلغة القرآن هو التسليم والامتثال للأمر الإلهي، أي أن الوصول إلى حالة الإسلام وإلى وصف المسلم هو بحاجة إلى جهد ذاتي خاص من قبل كل إنسان، ولا يكفي أن يولد الإنسان في بيئة من المسلمين فيأخذ هذا اللقب دون جهد منه، ويطلق العنان بعد ذلك لنفسه لتفعل ما يحلو لها..
لكن من هو الكافر في القرآن؟؟
بتتبع الآيات القرآنية التي تتحدث عن "الذين كفروا" ترتسم في أذهاننا صورة شخصية نموذجية تنطبق عليها هذه الصفة، فهناك أفعال محددة من يقوم بها فإنه يتصف بصفة من صفات الكفر، وهي صفة كمية وليست حديةً، فبمقدار ما يزداد الإنسان منها بمقدار ما تزداد كفريته إلى أن يصل إلى الحالة النموذجية لشخصية الكافر، وهذه الأفعال كما أسلفنا يمكن أن يقوم بها أي إنسان فهي ليست محصورةً بتصنيفات أيديولوجية أو مذهبية أو طائفية.. 
الذين كفروا في القرآن هم الذين ينكرون الحقائق بعد ظهور الأدلة الواضحة عليها "الآيات البينات"، وكلمة كافر في اللغة تعني التغطية لأن الكافر يغطي الحقيقة بكبره وعناده وتكذيبه، والذين كفروا هم الذين يعطلون استعمال عقولهم وسمعهم وأبصارهم فلا يستفيدون منها: "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم آذان لا يسمعون بها"، والذين كفروا هم الذين يمارسون الإرهاب الفكري ضد من يذكرهم بالحق ويمارسون العنف لتعويض ضعفهم الفكري،  "وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا"، والذين كفروا هم الذين يمارسون الفوضى والغوغائية لخلط الأوراق وتغييب الحقائق وإخفاء ضعف حجتهم: "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"، والذين كفروا هم الذين يناقشون الأشخاص بدل مناقشة الأفكار "لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"، "أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا"، والذين كفروا هم الذين يستكبرون في الأرض ويستعلون على الناس "وَجَحَدُوا بِهَا وَ اسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا"، والذين كفروا هم الذين يتصفون بالعقلية التبريرية: "وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ"..
وهكذا يتضح لنا أن الكفر هو مجموعة من الصفات الذميمة التي يرفضها الإنسان بفطرته السليمة، وليس حكماً فئوياً يطلقه المسلمون على الأمم الأخرى، الكفر ليس قناعةً عقليةً بل هو الجانب اللاعقلاني أو النزعة الانتحارية في الإنسان لأن الكافر هو الذي يطمس عقله فيقوم بأفعال تنتهي بالإضرار بنفسه: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"..ويوم القيامة تنجلي الحقائق فيكتشف الذين كفروا حالة اللاعقلانية التي كانوا يعيشون بها "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير"، ولو تأملنا كل الصفات التي يرسمها القرآن لشخصية "الذين كفروا" فإننا نجدها صفات انفعاليةً وليس صفات عقلانيةً مثل "بل قلوبهم في غمرة من هذا"، "ويلههم الأمل"، "في سكرتهم يعمهون"، "كل حزب بما لديهم فرحون"، "مودة بينكم في الحياة الدنيا"، وكل هذه الصفات هي تدل على الجانب الانفعالي في الإنسان، ولا يوجد موضع واحد أطلقت فيه صفة كافر على إنسان أعمل عقله وفكره..
قضية الكفر لا يمكن أن تكون نتيجةً لإعمال الفكر، ولا يمكن أن نواجه حركة الفكر بالتكفير، وإنما الكافر هو الذي يقوم بتصرفات غير عقلانية غير أخلاقية تأباها الفطرة الإنسانية السليمة، وبهذه النظرة فإن في صفوف المسلمين أنفسهم من ينطبق عليه وصف شخصية الكافر، وليس بالضرورة أن يكون الكافر هو غير المسلم، بل هو كل من تتوافق أفعاله مع النموذج الذي رسمه القرآن ل"الذين كفروا"...
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يفهم الكفر بهذا المعنى العام، وليس بالمعنى المتعصب الضيق الذي يجعلها حكراً على غير المسلمين، فكان يخشى على نفسه بأن يصيبه شيء من هذه الصفة فيستعيذ بالله كل صباح ومساء من الكفر والفقر وعذاب القبر..
بهذا التوضيح لا يكون في صدورنا حرج مما أنزل إلينا، ولا نكون مضطرين لأن نتخلى عن ديننا حتى نستطيع مخاطبة البشر، فالبشرية بكل أيديولوجياتها ومذاهبها تذم التكذيب بالحق، والإرهاب الفكري، واللجوء للطرق الغوغائية، والاستكبار في الأرض، وغير ذلك مما تعنيه كلمة الكفر، فكل ما تقره الفطرة الإنسانية السليمة فإن القرآن يدعو إليه، وكل ما تأباه هذه الفطرة فإن القرآن يذمه وينهى عنه..
والله أعلى وأعلم..
منقول عن الأستاذ: أحمد أبو رتيمة