الأحد، 19 مايو 2013

نحو خطاب ثقافي فكري جديد


               مقدمة عامة
  إن طرح أية رؤية جديدة للتحديث إنما تبنى على قراءة الواقع وقراءة جهود الآخرين وما قدموه من أفكار خلاقة، وتاريخ الفكر بناء مستمر وحلقات متتابعة، ولا شيء يأتي من الفراغ.
   هناك ثلاث مراحل رئيسية منذ بدء النهضة في القرن التاسع عشر، وكل مرحلة لها إيجابياتها وسلبياتها و خصوصياتها، ولا بد من إلقاء نظرة سريعة على تلك المراحل لفهم آلية تطور تحديث الفكر العربي المعاصر. ومنهجية التحديث تفرض علينا الدخول في التفاصيل، تفكيك العام ومناقشته ولكن لا يتسع المجال هنا، لذلك سنكتفي بتسليط الضوء على المفاصل الرئيسية.
   إن تاريخ البشرية في جوهره صراع بين القوى الخير وقوى الشر، وقد كان دأب المفكرين والفلاسفة والعلماء والمصلحين والمثقفين عبر التاريخ، هو الوقوف في وجه ذاك الشر والسعي لتحقيق العدل والخير للبشرية لتحقيق هوية الإنسان وقيمه ولتتمكن البشرية من تحقيق أهدافها الإنسانية النبيلة. وإن الحضارة الحقيقية إنما تقاس بما تحققه من القيم الإنسانية.
   واليوم كما الأمس ما زال العالم مثقلاً بالآلام الإنسانية وما زلنا في دوامة الصراع المرير، وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة المساهمة في البحث عن خطاب عربي خاص/ عام، يمكنه الجدل مع العالمية لأجل البشرية كلها، خطاب يبدأ بالخصوصية الضيقة لينطلق إلى آفاق برؤية تنظر لكل إنسان في هذا الوجود و لكل شعوب العالم.
   إن الانطلاق إلى العالمية، إلى الإنسانية كلها يتطلب أولاً التأسيس لخطاب حداثي عربي خاص يستطيع تحقيق الهوية العربية والذات العربية وطموحاتها وآمالها، وفي الوقت نفسه يحمل ذاك الخطاب إلى جانب خصوصيته تلك، رؤيته للإنسانية في هذا الوجود لأنه مفتوح على التطوير والشمولية والإنسانية.
   والخطاب الثقافي الفكري الجديد/الحديث لا بد وأن يتجادل مع القضايا الجوهرية في الثقافة العربية، في الفكر العربي بكل تنويعاته ولا سيما التراث. وأهمية أي فكر هي بمقدار إمكانية ممارسته على أرض الواقع حتى لا تكون الأفكار مجرد أطروحات نظرية ومثالية. مع العلم أنه يستحيل فصل الفكر عن السياسة، فالسياسة هي في نهاية المطاف ممارسة للأفكار. وهذا يعني بالضبط أن الخطاب الثقافي الفكري الجديد هو مشروع سياسي.
   والدعوة لخطاب ثقافي فكري جديد يعني الثورة لأنه تحرير للعقل والمنهج والرؤية، والمفكر الوطني المخلص والغيور على قضايا أمته ومصالحها ونهضتها، هو الحامل للرؤية التنويرية في التحديث والتحرير، وهو سياسي وثائر على الواقع/ الحاضر.
نظرة تاريخية:
   إن التاريخ العربي الإسلامي كُتب من وجهة نظر السلطة المركزية والطبقة المهيمنة في المجتمع "الاتجاه السني" و " الاتجاه الشيعي " وصورت المعارضة بأبشع الصور أيضا وهذا يتطلب إعادة كتابة التاريخ (كتابة تاريخ من لا تاريخ له) كما يقول د. أركون لأن المنتصر هو من يكتب التاريخ من منظار أحادي يكفر فيه جميع معارضيه ويشوه ثقافتهم وتاريخهم وحياتهم.
   ويقول د. حسن صعب: (إن تاريخنا الاجتماعي والاقتصادي وتاريخ مؤسساتنا الاجتماعية والسياسية، وتاريخ علومنا الاجتماعية لم تكتب كتابة علمية موضوعية بعد... ولذلك يعاني فكرنا العلمي والاجتماعي من هوة بين ماضيه وحاضره. وتهدد هذه الهوة صحة استطلاعاتنا المستقبلية. لأن استكشافنا الجديد المستقبلي لا يمكن أن يجري في فراغ بل في سياق التطور الخلاق من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل[1])
   وقراءة تاريخ الفكر العربي تتطلب إعادة كتابة التاريخ بمنهجية علمية نقدية تجعلنا نميز بين التاريخ الديني والتاريخ العلمي، فالتاريخ الديني محاط بهالة مقدسة، بينما التاريخ العلمي يعرض الحقائق بوضوح كما صنعتها على أرض الواقع الدوافع المتعددة ومنها الدين، ولكنه ليس الدافع الوحيد.
   كما أن تلك المنهجية العلمية تبعدنا عن المعايير المزدوجة في إطلاق الأحكام، وعدم الوقوع في التناقضات والغموض، فكثير من الباحثين إذا كان يتحدث عن الصراعات من أجل السلطة لا يوضح كيف يكون الطرفان المتصارعان كلاهما على حق، ويكتفي بالقول أحدهما اجتهد فأخطأ فله أجر، والآخر اجتهد فأصاب فله أجران، ويتهرب من السؤال الأهم وهو من الذي أصاب ومن هو الذي أخطأ؟ ثم كيف يكون أحد الطرفين مخطئاً وله أجر، وفي رقبته آلاف القتلى الأبرياء، وهذا يناقض حديث النبي عن مصير المسلمَين إذا التقى سيفاهما.
   إن معاوية هو أول من أقام نظام الوراثة في تاريخنا العربي وفصل بين الدين والدولة، ولكن في الوقت نفسه كانت المعارضة تطلب السلطة لنفسها كحق وراثي، وهذا يعني أنه لا فرق بين الطرفين من حيث الجوهر، والخوارج وقتها وحدهم من طرح ديمقراطية ‏السلطة وكانوا يقبلون بالحاكم دون النظر إلى قبيلته أو كونه ذكراً أو أنثى، كما رأوا ضرورة الخروج على الإمام الجائر.
   وتلك الخلفية انعكست على الرؤى الدينية فهي لم تشكل في بداياتها هوة بين الأطراف المتصارعة، وكل إشكالياتها جاءت بعد أن تجذر التعارض بين المتخاصمين، فأفكار التكتلات/ الأحزاب/ التيارات المتناقضة تبلورت عبر الصراع السياسي/ الاجتماعي/ الاقتصادي.
   وساهم الصراع بين السلطة المركزية والمعارضة، إلى امتداد الخلافات والنزاعات لتغطي الساحة العربية الإسلامية. وقد لجأت السلطة إلى قمع المعارضة ونفيها، ولم تكن هناك عملية مصالحة/ توفيق على الإطلاق عبر عصور اعتمدت السيف لغة للحوار.
   وفي العصر العباسي نهضت الحضارة إلا أنه لم يجر حوار لحل إشكاليات الدين والاختلافات وما تولد عنهما من مفاهيم، بل سارت الأمور باتجاه الأدلجة، وكان كل فريق يفسر الأمور ويؤولها رامياً الآخر المخالف والمساواة والتسامح خلف ظهره. فالصراعات أدت إلى انغلاق المنظومات الفكرية على نفسها ورفضت استيعاب جدلية الأنا والآخر على أرض الواقع المشترك.
   ولم يكن الدين - تاريخياً- رادعاً للصدام والتنافس والهيمنة ‏والسيطرة والقتل، لأن الدين كفكر، حيادي، ولكن معتنقيه لم يكونوا حياديين، وما زالت المعاناة من تبعات ذلك القديم حتى الآن.
   لقد بدأ انحدار العالم العربي الإسلامي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. منذ العصر العباسي الثاني (النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي) وكانت له أسبابه المتعددة منها: استبداد الحكام في سلطانهم، والصراعات الداخلية على ‏السلطة، وسيطرة العنصر غير العربي، والتجزئة والانفصال عن الدولة المركزية، حتى باتت الدولة العربية الإسلامية دولتين، ثم دويلات. وكذلك صار مركز الخلافة رمزاً شكلياً لا أكثر، وأضحت الخلافة خلافتين العباسية والفاطمية.
   وانهيار الحضارة العربية الإسلامية له أسبابه المرتبطة جدلياً مع الانحدار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وليس مجرد انعكاس آلي مباشر. فالبيئة غير الآمنة ودوائر البحث المغلقة وانعدام حرية الفكر والتعبير وعدم تشجيع العلم،‏ يؤدي إلى توقف البحث والإبداع ويجمد الفكر ويختنق العقل. وقد استمر انحدار الفكر العربي الإسلامي، إلى أن انتهى عهد العقل، وسيطر النقل الذي أسسه الفقهاء ثم الغزالي (توفي 1111). ومع أن التيار الفلسفي العقلاني وصل إلى ذروته عند ابن رشد (توفي 1198)، لكن منهجية النقل كانت قد انتشرت وسادت هيمنة الفقهاء التقليديين، وانتهى الاتجاه العقلاني نهاية مأساوية بطرد ابن رشد وحرق مؤلفاته.
   وفي القرن الثالث عشر الميلادي حاول ابن تيمية (توفي 1328) الذي وُصف بمحيي السنة، إصلاح التدهور والانحطاط وانتشار الخرافات في الأوساط الشعبية والبدع بالعودة إلى الأصول "القرآن وأحاديث النبي الصحيحة" ومذهب ابن حنبل، فثبت النص والظاهر، وعطل المنهج العقلي والفكري العلمي، وكفر الفلاسفة وبقية الطوائف غير السنية حتى التصوف الفلسفي. وظن ابن تيمية أن ما فعله هو إصلاح ديني ينهض بالمسلمين، ولكن إصلاحه أغلق دائرة البنية الفكرية الدينية وفق رؤيته السلفية المكفرة لكل ما عداها. وفي الوقت نفسه أغلق الفقهاء دوائرهم، مما أدى إلى تحويل المسلم إلى آلة تكرر نموذجاً سلفياً رسم له مسار حياته في كل صغيرة وكبيرة، وما عليه سوى التطبيق ليكون في الصف الأول مع ذاك السلف، فشل عقله عن الإبداع والتفكير لأن الأولين ما تركوا لمن سيأتي بعدهم شيئاً. وكان هناك هامش للتفكير أو الكتابة ولكن ضمن سيطرة صياغة القولبة الأحادية، وهي محصورة في الشرح أو الاختصار للدائرة المغلقة في الفقه والتفسير والنحو والبلاغة. وليس الفلسفة وعلم الكلام لأن (من تمنطق فقد تزندق)، ويجب (إلجام العوام عن علم الكلام(..
   وبما أن البيئة الدينية في عصور الانحدار همها استمرارية الطقوس الدينية والحياة الاقتصادية، واجهت المذاهب الدينية المختلفة مشكلات عصورها الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية.. وحاولت أن تجد لها الحلول ضمن دوائرها، وصار الفقيه التقليدي المرجعية في أمور العقائد والعبادات والسوق. وارتبط بالسلطة الحاكمة وأدلج لشرعيتها، ومنهم من قبل بالحاكم وإن كان فاسداً ما دام مسلماً لا يعيق شعائر الدين، بل منهم من أفتى بقبول حكم الفاجر أو الزنديق إن كان الأمر يتعلق ببقاء شعائر الدين وحفظ أمن العباد لأنه - بزعمهم- خير من البقاء بلا حاكم أو الوقوع في الفوضى. ومن الفقهاء من فضل الحاكم العادل وإن كان كافراً، أي إطاعة الحاكم الكافر العادل أفضل منالحاكم المسلم غير العادل كما يقول د. حسن حنفي.‏
   كل تلك العوامل وغيرها أدخلت العرب والمسلمين في غيبوبة فكرية، واستمر الغرق رويداً رويداً في الانحطاط حتى عصر النهضة، لكنها لم تخل من إشراقات مضيئة كظاهرة ابن خلدون.
   لقد بدأت النهضة في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر وأخذت بعدها في إبراز الكيان العربي المرتبط جدلياً بالتخلص من العثمانيين، وقد لعب الاستعمار الغربي وعلى رأسه بريطانيا في الحرب الأوروبية الأولى (1914 - 1918) في إطلاق الثورة العربية الكبرى في عام (1916) خادعة الشريف حسين بأنها ستمنح العرب الاستقلال ووحدتهم في المشرق العربي (الجزيرة العربية) بعد طرد الأتراك، وبتنصيبه ملكاً على العرب كما ذكرت (مراسلات حسين - مكماهون[2] عام 1915) إلا أنهم في الوقت نفسه كانوا يخططون من خلال اتفاقية سايكس - بيكو (1916)، لاقتسام تركة الرجل المريض/ المحتضر في البلاد العربية التي سيطر عليها الأتراك في آسيا. كما خططوا لزرع القاعدة الاستعمارية الصهيونية (وعد بلفور 1917) والمرتبطة جدلياً مع تقسيم البلاد إلى دويلات لمنع قيام أي كيان للأمة العربية أو النهوض.
   إن الثورة العربية الكبرى التي عقدت عليها الآمال في عصر جديد لم تكن سوى أداة في يد الغرب لتعجيل الانتصار على الأتراك في الحرب والسيطرة على الوطن العربي وخيراته وأكثر من هذا سعت بريطانيا لإقامة جامعة الدول العربية في عام 1945 لتكريس التجزئة، ففي ميثاق الجامعة في المادة الثانية عشرة والخامسة عشرة التأكيد على احترام سيادة كل دولة واستقلاليتها.
   وطويت المرحلة الأولى من النهوض على هذا الوجه السياسي المظلم. وبدأت مرحلة جديدة في تاريخنا خاض فيها الشعب العربي معارك التحرر الوطني في الأقطار المجزأة ضد المستعمرين وتحقق استقلال بعض الدول العربية، وأخذ ينمو وعي سرّع عملية النهوض والتي انطلقت من مصر عقب ثورة عام 1952 وامتد تأثيرها إلى الوطن العربي على امتداد الخمسينيات والستينيات، فقويت الحركة القومية وانتشر الفكر الاشتراكي، ونهضت الثقافة: الفكر والعلوم والآداب والفنون.. إلا أن نكبة جوان عام 1967 جاءت متناقضة مع القفزة النوعية التي تحققت، فتزعزعت ثقة الجماهير الشعبية بالأنظمة، لأن ما حدث لم يكن مجرد هزيمة عسكرية أو نكسة بعد ذاك النهوض الكبير، فقد تحطمت أحلامها وآمالها في مشروع النهوض القومي والتحديث. ولكن الجماهير المغلوبة على أمرها تجاوزت كبريائها المجروح وأصرت على المتابعة والتحرير، ومع أنها ليست مسؤولة مباشرة عن النكبة، ولكنها تتحمل جزءاً من المسؤولية لأنها بدلاً من أن تطالب بحقها في المشاركة الفعلية في السلطة والقرار والمحاسبة، تخلت عن دورها واتكلت على أصحاب القرار.
   لقد صار المطروح عقب الهزيمة الكارثية ليس تحرير فلسطين وإنما تحرير الأراضي التي احتلت عام 1967 وفي هذا السياق جاءت حرب عام 1973 التي هي نتاج المرحلة السابقة، وقد أثبتت بأن الجيوش النظامية العربية إذا امتلكت النية والإرادة والعمل بإخلاص تستطيع مواجهة الجيش الصهيوني الأقوى في التكنولوجيا والإمكانيات والمدعوم أمريكياً وأوروبياً.
   ولكن مع الأسف لم تستثمر النتائج لخلق وضع جديد ورؤية جديدة للصراع العربي الصهيوني حيث وظف الرئيس المصري السادات النتائج الإيجابية لحرب تشرين لصالح التسوية والصلح والسلام مع الكيان الصهيوني، مما أدى لدخولنا في مرحلة جديدة غاصت فيها الأمة العربية في انحدار جديد.
   لقد خرج النظام المصري من الصراع العربي الصهيوني، وجمدت جدلية معركة التحديث ومعركة التحرير وبناء الأمة، وتكرس الواقع التجزيئي الذي صنعته مؤامرة المستعمرين والاتجاهات القطرية، وتقزمت خريطة فلسطين... وانتهى الأمر فيما بعد إلى المشروع العربي للسلام واعتراف معظم الأنظمة العربية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية بالقاعدة الاستعمارية، منفذة ما تمليه عليها الإمبريالية الأمريكية. فالمقاومة الفلسطينية التي كسبت ثقة الشارع العربي عقب النكبة، وتصدرت دور الطليعة في الثورة العربية، جرتها قيادة المنظمة المرتبطة بالأنظمة العربية التابعة لأمريكا نحو التسوية وألغت من قاموسها مقولة "الإمبريالية وقاعدتها ‏الاستعمارية هدفها منع النهوض العربي والوحدة والتقدم..." وبدأت تبرز المصطلحات اللا وطنية مثل الحديث عن الصراع الفلسطيني الصهيوني، بينما هو صراع عربي صهيوني وله بعده الإسلامي... واستخدام كلمة المسماة (إسرائيل) دون ربطها بفلسطين المحتلة عام 48 أو وضعها بين قوسين للدلالة على عدم الاعتراف بها[3]...
   لقد طرح رواد المرحلة الأولى السؤال المنهجي: كيف ننهض؟ فتعددت الرؤى والأطروحات الفكرية، وبقيت تلك الأطروحات مستمرة خلال مراحل النهوض كلها حتى الآن، وأدت إلى تنويعات وتعديلات. وحدثت تحولات كثيرة عصرنت بعض شؤون الحياة. وطُرحت أفكار لم تكن معروفة سابقاً كالحرية السياسية والديمقراطية والعلمنة وحقوق المرأة... وحدث جدل واسع بين حملة الأيديولوجيات والأفكار المتنوعة ورجال الدين وتبادلت التهم بالتحريف والتكفير والعمالة، ولكن لم تجر أية محاولة جادة للحوار والتفاهم وخلق قواسم مشتركة، لأن كل فريق تصور نفسه الحامل الوحيد للحقيقة المطلقة.
   وأكثر من هذا حاولت بعض التيارات والاتجاهات نفي المغاير والمناقض لها بتغييبه أو إقصائه أو إضعافه، ولكنها لم تستطع أن تلغيه أو تحذفه أو تقضي عليه، وإذا ما اشتد الضغط على تيار فكري ما كان يتحول إلى العمل السري، أو يعيد تشكيل نفسه بتسميات جديدة، لذلك بقيت التيارات الفكرية تتصارع إلى جانب بعضها سراً وعلانية.
   وفي المرحلة الثالثة مرحلة الانحدار بدءاً من السبعينيات خاضت التيارات والاتجاهات والأحزاب المتعددة غمار معركة النهوض، ولكنها عادت لمناقشة ما تجاوزته المرحلة السابقة وحسمتها أطروحاتها، فقد استعادت طرح السؤال المنهجي الذي طرحته المرحلة الأولى منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً وهو: كيف ننهض؟ وكان عليها أن تطرح السؤال المنهجي: لماذا لم ننهض، لتبحث عن المعوقات والأسباب، ولتستفيد من النقاط الإيجابية لأفكار المراحل السابقة التي ساهمت على امتداد العقود الماضية في تحقيق إنجازات هامة.
   فطرح الأسئلة منهجياً بشكلها الصحيح يؤدي إلى الأجوبة الصحيحة. وما إعادة تكرار أطروحات قيلت منذ القرن التاسع عشر ورددتها مئات الألسن كفتح باب الاجتهاد، وعقلانية المعتزلة وخط ابن رشد... إلا نتيجة الخطأ المنهجي في طرح السؤال.
هناك علاقة جدلية بين الثلاثية: التراث، التحديث، الحرية والتحرير.. ولعل إخفاقات الخطابات التحديثية المطروحة هي نتيجة تغييب ركن من أركان الثلاثية، وقراءة تلك الجدلية بموضوعية يمكن أن تصل بنا إلى القواسم المشتركة وبالتالي يمكن صياغة نظرية المعرفة التحديثية للفكر العربي.
قضية التراث والتحديث:
إن التراث بالنسبة لنا هو التاريخ والحضارة والذاكرة والهوية، وتحديث الفكر لا يستطيع تجاهل تلك الحقيقة وتغييبها، يقول د. زيعور: (حفاظاً على الصحة النفسية والعقلية، لا يجوز للعربي ولا يقدر على التخلي عن تراثه والانسلاخ عن ثقافته. إذ بذلك يستأصل جذوره وينفصل عن حقله التاريخي. حتى التشكيك بقيمة الموروث الحضاري عملية تزعزع الثقة بالنفس و بنحن لأنها تخل بالتوازن بين الأنا وحقلها الحضاري الذي يعطي الإنسان عمقاً، وقيمة، وشعوراً بالانتماء ومن ثمة بالأمن والاطمئنان أي بالقدرة على الاستمرار والتكيف[4])
الجدال والصراع بين القديم والجديد أو الثابت والمتغير، سيبقى مستمراً إلى ما لا نهاية. فنحن وما نطرحه الآن سيغدو مستقبلاً قديماً بنظر الأجيال القادمة، لذلك نقول التراث والتحديث ليسا ضدين ولا خصمين فهما حياديان، والإشكالية المختلقة هي في أنصارهما. فنصير القديم يدافع عنه لأنه مثله الأعلى ويمنحه الاطمئنان والراحة، بينما الجديد يخلق لديه التوتر والخوف من المجهول، كما أن الاختيار يعني القلق‏ والمعاناة، وهذا نتيجة عدم استيعاب معنى الحرية والمسؤولية واستقلالية الذات..!
والتراث ليس متجانساً في رؤيته للإنسان وقيمه، وليس كل ما فيه جيد ومشرق، والأجداد عاشوا عصرهم ولم ينظّروا لكل العصور وإلى الأبد، فإن كان الأمر كذلك، فمن أعطاهم ذاك الحق المطلق؟
كما يجب أن ننتبه إلى مدعي الأصالة حيث أن دعوة السلفيين إلى الأصالة حتى الآن تعني المحافظة والعودة لتقليد السلف في كل شيء، أي تحويل الإنسان المعاصر إلى نسخة مصورة عن السلف، يفكر بعقلهم ويرى بعيونهم.. يقول د. عبد الله العروي: الدفاع عن الأصالة هو في آخر التحليل دفاع عن المحافظة[5]
 ولكن ما هو التراث؟ إن العرب صنعوا حضارتين على المستوى العالمي: الحضارة الأولى القديمة ما قبل الإسلام والتي امتدت آلاف السنين في عمق التاريخ: الحضارة الكنعانية الفينيقية، والسومرية والآشورية والبابلية، والمصرية إضافة إلى حضارة تدمر والأنباط وجنوب الجزيرة سبأ وحضرموت. وقد أنتجت الفكر والعلوم المتنوعة كالهندسة والفلك والزراعة والصناعة والتجارة، واللغة والأديان. والثانية: الحضارة العربية الإسلامية التي امتدت حتى القرن الثالث عشر الميلادي، ثم بدأت بالانحدار.
وكل ما وصلنا من الحضارتين هو تراث، لكن بعض المفكرين الإسلاميين الأصوليين لا يقبل إدراج الدين في التراث، لأنه يرى أن التراث هو من صنع بشري، أما الدين فهو من عند الله. وتلك الرؤية لمفهوم التراث خاطئة لأن المقصود من التراث هو كل ما وصلنا عن طريق الأجداد، أما أصل مصدر ما وصلنا فهو موضوع آخر ديني/ تاريخي، وهو ليس موضوع بحثنا.
وهناك كثيرون عندما يتحدثون عن التراث إنما يعنون الدين، وهذا المفهوم خاطئ فالتراث أعم والدين جزء منه... وفهم التراث على أنه الدين الإسلامي فقط، وجعله هو التاريخ والهوية والماضي والحاضر، وتغييب ‏آلاف السنين التي قبله فيه إجحاف لتاريخ الفكر العربي.
وهناك مفكرون إن تحدثوا عن الفكر العربي إنما يعنون بالضبط الفكر الإسلامي، ولا يفصلون بين مفهومي الفكر العربي العام والفكر العربي الإسلامي الخاص، ففي نقد ‏بعضهم للفكر العربي إنما هو في الحقيقة نقد للفكر الإسلامي، فالعناوين مثل (نقد ‏العقل العربي) إنما هي حقيقة (نقد العقل الإسلامي) كما عند د. محمد عابد الجابري ود. محمد ‏أركون الذي يذكر في كتابه (الفكر العربي) أن مرحلة تشكل الفكر العربي بدأت سنة 632 وحتى حوالي سنة 950، أي تكوين الفكر العربي بدأ من الفترة الإسلامية ‏وفي هذا تجاهل للمكونات ما قبل الإسلام، وتجاهل للعرب غير المسلمين في التكوين. فالدين الإسلامي مفصل رئيسي وهام من التراث، ولكن هناك مفاصل أخرى يجب ألا تُغيّب إن كنا نريد رؤية إنسانية شاملة.
إذاً بنية الفكر العربي تمتد جذورها لآلاف السنين، وليس جوهرها التراث الديني وحده. بينما بنية الفكر العربي الإسلامي هي في جوهرها دينية، والعرب هم حاملو الفكر الإسلامي، وبالتالي لا يمكن تصور أحدهما بمعزل عن الآخر.
وبما أن الدين الإسلامي مرحلة فاصلة في تاريخ الحضارة العربية فالأفضل أن يُستخدم مصطلح ما قبل الإسلام وما بعده، وليس ما قبل المسيح وما بعده، لأن التراث المسيحي جزء من التراث العربي قبل الإسلام، وهناك حضارات عربية بين فترة المسيح والإسلام. ولكن كتاريخ عام يمكن أن يستخدم ميلاد المسيح " قبل وبعد " لشيوعه العالمي، وهو تاريخ عربي.
إن دراسة الفكر العربي في المرحلة العربية الإسلامية تتحدد في موضوعين: بنية الفكر وتكوينه: فالبنية هي دينية/ النص، أما التكوين فهو ما بني على النص. ودراسة البنية هي دراسة النص فقط، بينما دراسة التكوين هي أوسع دائرة بسبب ما أفرزته البنية من فضاء ثقافي واسع. وما كتب من شرح وتفسير للدين/ النص، وفيه رؤى مختلفة، وليس هو الدين ولا المساوي له في المكانة.
لقد تكونت في الحضارة العربية الإسلامية حلقات من البناء الفكري حول النواة القرآن ‏الكريم، فالحلقة الأولى شملت التفسير والحديث النبوي واللغة والفقه والنحو والأدب ولا سيما الشعر، والحلقة الثانية علم الكلام والفلسفة والمنطق، والحلقة الثالثة العلوم المختلفة.
ودراسة الحضارة الإسلامية بموضوعية تتطلب دراسة المصادر المتنوعة وتحليلها ونقدها في العمق والكشف عن جدلية العلاقات بين المعطيات التاريخية/ السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
كما أن فكر المذاهب والطوائف والفلسفات كلها حتى الذين اتهموا بالزندقة أو الكفر أو الخروج عن عصا السلطان... جزء من التراث العربي الإسلامي، جزء لا يتجزأ مما قدمه الأجداد، ولا يحق لأحد تهميشه أو تغييبه. كما أن هناك كثيراً من الأفكار والأخلاق والعادات والتقاليد تمتد جذورها إلى ما قبل الإسلام.
وكذلك اللغة العربية فما هي إلا نتاج تطور يضرب في أعماق التاريخ منذ اللهجات القديمة المصرية والبابلية والكنعانية والآرامية والسريانية... وإن كثيراً من كلمات اللهجات القديمة ما زالت حية حتى الآن.
فالتراث العربي القديم هو المؤسس لما جاء بعده فلا شيء يأتي من الفراغ، وإنما تراكمات عبر عصور تسلم نتاجها إلى بعضها.
واحترام التراث العربي الإسلامي والاعتزاز به شيء، وعدم النظرة الموضوعية له شيء آخر، ولكل إنسان الحق في اختيار ما يراه مناسباً له من التراث كما يقول د. عبد الله العروي: التراث هو في متناول الجميع، ولكل شخص الحرية في أن يأخذ منه ما يعطيه التوازن وإرادة العمل[6]
نرى مما مر أن القضية ليست صداماً مع التراث، ولكن المهم إعادة النظر فيه بروح علمية موضوعية، لتوظيفه في النهضة والتحديث، وتوحيد رؤية جوهر الصراع ضد الأعداء، والتخلي عن مفاهيم ليست جامعة كالمصطلح القديم صراع المؤمنين والكافرين، وبلاد الإسلام وبلاد الكفار/ الصليبيين/ النصارى، دار السلم ودار الحرب... لأن الصراع الآن هو صراع العربي (المسلم والمسيحي) ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني. وهذا الصراع لا يواجه بالشعارات والأدلجة بل بفكر علمي متكامل وبرنامج ملموس على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
نقول هذا لأن الصراعات الفكرية بين التراثيين والتحديثيين، لم تصل إلى صياغة الفكر العربي الجديد ونظرية المعرفة الحديثة لأسباب متعددة منها تشنجية أو نرجسية أو أصولية عند الكثيرين، والأصولية ليست أصولية دينية فقط عند قسم من المسلمين أو المسيحيين، وليست أصولية طائفية فقط، بل هناك أصولية علمانية وأصولية يسارية وأصولية ليبرالية... وكل واحدة تريد نفي الأخرى، ولا تبحث عن نقاط يلتقي فيها الجميع لمواجهة الخطر الحقيقي على الأمة العربية في المعادلات الجديدة التي تريد إعادة ‏بناء المنطقة وفق منظور المصالح الأمريكية الصهيونية من خلال العولمة.
لقد تمحور الصراع بين التيارات والاتجاهات المتعددة حول التراث والتحديث في ثلاثة مواقف بشكل عام:
1- اتجاه متطرف أراد استعادة التراث الديني كله.
2- اتجاه تلفيقي حاول التوفيق بين الدين والتحديث بالبحث عن المقاربات العقلانية.
3-اتجاه رأى أن التراث الديني تاريخ مضى وانتهى، ولم يعد يسعف في حل إشكاليات الحاضر. والعقل العربي ليس بعاجز عن حل إشكالياته في التحديث وقضايا الحرية والعدالة والأخلاق. إذا امتلك آلية النقد المنهجي، واستوعب روح العصر على الصعيدين النظري والعملي.
وتلك الاتجاهات تبلورت في أفكار ومفاهيم وتكتلات وتيارات وأحزاب تصارعت فيما بينها خلال مراحل النهوض كلها.
مرحلة النهضة الفكرية الأولى:
كان الصراع الأساسي بين التيارات الدينية وشبه العلمانية وكان هناك تناقض حاد بين الأصوليين التقليديين السلفيين والإصلاحيين يمكن حصرها منهجياً في قضيتين جوهريتين:
1-    الاجتهاد
2- النقل/ الوحي، والعقل/ الرأي.
وطرحت أفكار مهمة إلا أنها لم تحظ بالإجماع كالعلمنة والفكر الاشتراكي والتحديث المبني على الفكر والنظم الغربية وقضية المرأة... وأنصار تلك الأفكار كانوا أقلية أمام الاتجاهات الدينية " السنية " الأقوى والتي رأت أن النهوض يكمن في إحياء الدين والأخذ بالعلوم الغربية إلا ما تعارض منها مع الدين.
السلفيون التقليديون رفضوا فكرة تحديث الإسلام، لأن الإسلام كامل ومطلق كما ذكر شيخ الإسلام مصطفى صبري (توفي 1954) وحسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين والسلفيون الوهابيون/ أتباع ابن تيمية. وقد رأوا أن الاجتهاد يرتبط بالأمور المستجدة فقط، وهو لا يمس الأصول نفسها.
وقد أعطوا الأولوية للفهم الظاهر للنص ما دام نقله صحيحاً، فالنقل قبل العقل. ويعللون رأيهم بأن العقل قاصر عن إدراك وفهم بعض الأمور التي قد تظهر مخالفة للعقل. وهناك مواضيع خارج نطاق العقل كالغيبيات ومصدرها النصوص الصحيحة فقط.
وقد عدّوا الفصل بين الدين والدنيا كفراً لأن الإسلام شمولي وهو ليس مجرد فقه العبادات، بل تشريع أيضاً لنظام الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع...
واتهموا أفكار العلمنة والقومية والتحديث بأنها غريبة حملها المتفرنجون/ التغريبيون/ ‏المتغربون، بتوجيه من الغرب " الكافر/ الصليبي/ النصراني/ الاستعماري.." لضرب الإسلام، والقضاء على الدين وتغييب التاريخ والهوية. والحل لا يكون إلا بقيام دولة إسلامية تستند إلى الشريعة في الدين والدنيا، واستعادة الخلافة.
والتيار يرى نفسه الفرقة الوحيدة الناجية استناداً للحديث النبوي الذي ورد بصيغ مختلفة: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة[7])، (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي[8](
أما أتباع منهج المعتزلة فقد كان لهم حضورهم الكبير في تلك المرحلة كالطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده. وقد قدموا العقل على النقل للتوفيق بين الإسلام والتحديث. فإذا تناقض النقل مع العقل فللعقل الأولوية، وهذا يعني تأويل النص بما يناسب العقل. كما ناقشوا قضايا المرأة تعلمها، عملها، التعدد، الحجاب. واستمدوا من مفهوم الشورى الديموقراطية مع أن الشورى محصورة بالفئة العليا من كبار المسلمين، بينما الديمقراطية تشمل جميع البشر في المجتمع دون استثناء وبغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم وقبائلهم.
وقد عدّ أحمد أمين (توفي 1954) القضاء على المعتزلة من أكبر مصائب المسلمين: في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين ‏موت المعتزلة[9]
أما دعاة العروبة فقد ربطوا فكرة الانفصال عن السلطنة بموضوعي القومية والاستبداد العثماني الذي جمع بين السلطتين الزمنية والدينية/ الخلافة. وعدوا الاستبداد والظلم سبب تخلف العرب والمسلمين. وكانوا يرون السلطان عبد الحميد (خليفة المسلمين دينياً وزمنياً) رمز الاستبداد لرفضه الدستور والحياة الديمقراطية. وقد علل السلطان عبد الحميد في مذكراته موقفه بالقول: الحكم المقيد 1905: لم تتطور بلادنا التطور الكافي لتقبل الحكم الدستوري، فإن هذا الطراز من الحكم خطر كبير علينا إذ بمقتضاه يكون جميع الرعايا متساوين في الحقوق والواجبات، وهذا أمر يستحيل تطبيقه في بلادنا[10]...
وقد شرح عبد الرحمن الكواكبي (توفي 1902) في كتابه (أم القرى) أسباب ضعف الأمم الإسلامية وتخلفها، ودعا إلى فصل الخلافة العربية عن السلطنة العثمانية وجعل مركزها في الحجاز لتكون للعرب وحدهم، فالخلافة العربية تجمع العرب وتوحدهم تحت قيادة خليفة عربي، قادر على صنع النهضة ومواجهة الاستعمار الغربي.
وفي كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، هاجم الاستبداد العثماني وبين أن الاستبداد هو سبب انحطاط الشرق فهو يفسد الأخلاق والدين، ويضعف العقل ويجعل الإنسان في مستوى البهائم. وهاجم رجال الدين الذين ربطوا أنفسهم بنظام المستبد والقوة الأجنبية التي تناصر المستبد وتعود الناس على الاستبداد وقبوله[11]
وقد استوعب بنية الاستبداد ( الإرهاب والقوة المسلحة والقوة المالية ) إلا أنه لم يكن من أنصار المواجهة بعنف فقد قال:( الاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً[12] )
والجدالات والمعارك السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية والأدبية التي كانت تدور بين الأطراف المتناقضة، أدت إلى تفتح العقل العربي وازدياد الوعي... ولم تستفد التيارات الدينية من تكفيرها لكثير من المفكرين، ففي عصرنا أعاد بعضُ المفكرين الإسلاميين مثل د. محمد عمارة، الاعتبارَ لهم وأشادوا بمنجزات علي عبد ‏الرازق وطه حسين ورفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي.‏..
لقد جرت معركة النهوض الأولى تحت هيمنة الاستعمار الغربي ولا سيما في مصر، وكانت محصورة إجمالاً ضمن دائرة المفكرين والمثقفين من جهة وبينهم والسلطة من جهة أخرى، أما الشعب فكان خارج القوس تعصف به رياح الأمية والجهل والتخلف والفقر.
ومع أن هذه المرحلة انتهت إلى تجزيء الأمة العربية وزرع الكيان الصهيوني، ولم تنجز برنامج التحديث، ولم تصل إلى صوغ نظرية معرفية قائمة على المنهج العلمي، ولم تضع آلية العمل والبرامج القابلة للتحقيق، إلا أنها حققت قضايا كثيرة وأعطت ثمارها، وأنتجت مفاهيم جديدة ما عاد بالإمكان التراجع عنها إلى الوراء، وأسست للمرحلة الثانية من النهوض.
وأهم أطروحات هذه المرحلة من النهضة ما يلي:
1-    فكرة القومية العربية.
2-    التحرر من الاستعمار، ورفض الاعتراف باغتصاب فلسطين.
3-    الإصلاح الديني القائم على تقديم العقل على النقل، والتأويل والاجتهاد المفتوحين والمستمرين.
4-    العلمنة (Sécularisme) وقد طرحت أفكار جديرة بالتأمل مثل إمكانية تحديث رؤيتنا للدين بفصل الدين كعقيدة وعبادة لتكون خاصة ذاتية، بينما الشؤون الدنيوية (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية...) تترك للتطور الزمني وما يناسب الزمان والمكان...
5-    إقامة النظام الديمقراطي الدستوري، وفصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
6-    الحريات المكفولة في القانون وأهمها حرية الرأي والفكر والمعتقد، والتعبير عنه من خلال الكتابة والصحافة والندوات والمسيرات، وتشكيل الحركات والأحزاب والمنظمات.
7-    العدالة الاجتماعية.
8-    الفكر الاشتراكي: ولكن لم ينضج الوعي الاشتراكي في هذه المرحلة بين الناس نتيجة ضعف الحركات الاشتراكية في الخطاب والممارسة، واهتمامها باللعبة البرلمانية.
كما أن رجال الدين كان لهم تأثير في تكفير الاشتراكية ونشر المفاهيم الخاطئة عن حقوق الملكية الخاصة والقضاء والقدر وأرزاق الناس وتوزيع الثروات، والتفاوت بين الناس.
9-    العلم  
10 العصرنة ومتابعتها في جميع المجالات العمرانية والحياتية بما في ذلك الزراعية والصناعية...
11 تحرير المرأة: التعليم، العمل، المساواة بالرجل، رفض التعدد والحجاب.
مرحلة النهوض الثانية:
إن الواقع المرير الذي انتهى إليه الوطن العربي في المرحلة الأولى من النهوض الاستعماري والتجزئة وإقامة الكيان الصهيوني، بلور فكرة أولوية التحرر السياسي من الاستعمار الغربي، والوحدة لإعادة لحمة الأمة المجزأة. وكانت هذه المرحلة مرحلة النهوض القومي.
لقد عمت الثورات الوطنية العالم العربي للتحرر من المستعمر الغربي، ولكن بقي حضور الاستعمار بمفهومه الحديث قوياً في كثير من الدول المستقلة من خلال عقد اتفاقيات اقتصادية أو ثقافية أو تحالفات أو قواعد أو امتيازات ما. مع القيادات الوطنية البرجوازية التي استلمت القيادة. وقد التفتت تلك القيادات إلى مصالحها وتنمية ثرواتها على حساب الشعب، فقادت البلاد إلى التبعية السياسية والاقتصادية للاستعمار الغربي. مما يعني أن التحرر الأول من الاستعمار لم يكن نهاية المطاف، بل لا بد من استكماله بتحرير آخر للتخلص من تلك القيادات التي لم تعمل على إلغاء رواسب الاستعمار كالتخلف والجهل والفساد والفقر والاستغلال والظلم الاجتماعي. وقد سمحت للاستعمار بالعودة إلى الاستغلال والامتيازات تحت غطاء الاستقلال.
وقد ساهمت التراكمات الكمية لأطروحات المفكرين في المرحلة السابقة عن معاناة الفقراء والعدالة والاشتراكية. في ظهور قيادات وطنية اهتم خطابها بمصالح الشعب ونهوضه، ونشر مفاهيم الثورة الاجتماعية الداعية إلى تحطيم البنية التقليدية، وتشييد بنية جديدة لمصلحة الجماهير الكادحة والفقيرة، والتي هي صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة. وهنا تم الربط بين التحرر السياسي والتحرر الاقتصادي والاجتماعي من خلال الاشتراكية، وربطهما بالوحدة لبناء الأمة العربية الواحدة أي الحرية والوحدة.
يعد ساطع الحصري أبو القومية العربية (1880 - 1968) وإن ولدت على يدي نجيب عازوري. لقد رأى الحصري أن الثقافة واللغة هما أهم عاملين في تكوين القومية العربية وليس الدين، فالعروبة لها الأولوية كما يقول في كتابه (العروبة أولاً). ولإنجاح الوحدة العربية دعا إلى فصل الدين عن الدولة لحل إشكالية الأديان والطوائف المتعددة.
لكن تلك العلمنة لم يدع لها كثير من أقطاب الفكر القومي فقسطنطين زريق في كتابه (الوعي القومي) الذي صدر عام 1939 ربط بين العروبة والإسلام. وزكي الأرسوذي رأى أن العروبة هي الإسلام. وميشيل عفلق (1912 - 1989) وهو من أعمدة مؤسسي حزب البعث القائم على الفكر القومي لم يفصل العروبة عن الإسلام كما كان يذكر في محاضراته وكتبه مثل (في سبيل البعث) فهو يسميها: (العروبة المسلمة). والإسلام كما يراه هو والآخرون التاريخ العربي/ الإسلامي وروح الحضارة في العلم والثقافة والفلسفة.. وهو المكون للشخصية العربية وللفكر العربي عبر التاريخ، ولا يراه معارضاً للفكر الاشتراكي. ونتيجة جدلية العروبة والإسلام في فكر عفلق رفض تبني فكرة علمانية الغرب الداعية إلى فصل الدين عن الدولة.
لكن المفكرين القوميين الأوائل في هذه المرحلة (الحصري، عفلق، زريق، الأرسوذي..) لم يقدموا برنامجاً فكرياً يستند إلى منهجية علمية في تحليل الواقع الملموس ووسائل تحقيق إعادة بناء الأمة الممزقة وإنجاز الديموقراطية والحرية، وما قدموه ليس سوى أدلجة وشعارات مثالية تحرك العواطف والمشاعر.
إن تطور الأحداث في مصر بدءاً من الثورة والخطاب القومي لجمال عبد الناصر، والإصلاح الزراعي في عام 1953م، وجلاء القوات الأجنبية في عام 1954م، ومؤتمر باندونغ ‏وتأسيس حركة عدم الانحياز كخط سياسي مميز للعالم الثالث في عام 1955م، وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي الفاشل الذي أعقبه في عام 1956م، ثم تمصير الشركات الأجنبية في عام 1957م. كل ذلك أجج المشاعر الوطنية والقومية، وأثمر في نهوض التيار القومي في هذه المرحلة وعلى امتداد الخمسينيات والستينيات في الشارع العربي.
لم يكن التيار القومي متجانساً مع بعضه، وقد حدثت فيه اختلافات وصدامات بينهم كما حدث بين حركة القوميين العرب وعبد الناصر.
وقد تابع القوميون نقدهم للشيوعيين لرفضهم فكرة القومية العربية ونعتها بالشوفونية، ونقدوا الفهم الشيوعي الاقتصادوي الذي أهمل العناصر المتعددة للقومية، وركز على السوق والمصالح الاقتصادية غير المتوفرة لينسف فكرة القومية تحت شعار الانتظار حتى يتحول المجتمع إلى مجتمع صناعي فتنشأ دوافع المصلحة للتوحيد..
والاشتراكية التي طبقت في بعض الدول العربية إنما هي رأسمالية الدولة حيث كان تأميم المصانع مثلاً عملية تحويل ملكيتها الخاصة إلى ملكية عامة أي إلى الدولة، وليس إلى العمال أنفسهم ليديروها ويشرفوا عليها.
ويمكن إجمال ما قدمه فكر هذه المرحلة في النقاط التالية:
1-    رسوخ الفكر القومي/ الأمة العربية الواحدة.
2-    الفكر الاشتراكي ضمن مفهوم الخصوصية العربية.
3-    انتشار مفهوم العلمنة.
4-    نشر العلم بكل أنواعه، وأهمية الربط بين النظري والتطبيقي/ التكنولوجيا.
5-    إحياء الأخلاق القائمة على العدل والإخلاص في العمل، ومحاربة الفساد.
6-    تحقيق مبدأ المواطنة، دمج أبناء الشعب في الوطن دون النظر إلى دينهم أو طائفتهم أو إثنيتهم إن كانوا من أصول غير عربية.
7-    تحقيق قفزات نوعية في حقوق الأسرة والطفل، والمرأة وحريتها والمساواة بينها والرجل في الحقوق والواجبات. وبعض الدول العربية العلمانية كتونس منعت تعدد الزوجات!
وإلى جانب تلك الأفكار، استمرت أفكار التيارات المختلفة كالتيار الديني السلفي، والتيار الشيوعي.
مرحلة النهوض الثالثة:
إن نتاج الفكر في هذه المرحلة على امتداد معظم عقد السبعينيات هو امتداد طبيعي للمرحلة السابقة ضمن الإجابة عن سؤال النهوض بعد النكبة عام 67، أما نتاج الفكر الخاص بالمرحلة الثالثة وما أفرزته من تغييرات وتنويعات فقد بدأ منذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات وحتى الآن، وقد شمل في بداياته آراء متعددة تحديثية، ثم مع السقوط بدأ الفكر الوطني باتجاهاته المختلفة يتجه نحو القضية المصيرية ليعطيها الأولوية، فساد هذه المرحلة على الصعيد السياسي تياران، الأول: التيار الوطني المقاوم للإمبريالية الأمريكية والصهيونية والسقوط العربي. والتيار الثاني هو: تيار السقوط والاستسلام الذي أسسه أنور السادات حيث أعلن إنهاء الصراع العربي الصهيوني ضمن معادلة الانسحاب "الإسرائيلي" من الأراضي المحتلة بعد عام 67 مقابل الاعتراف والسلام.
ولم تكن حرب تشرين في عقله إلا تحريكاً للموضوع الجامد والمعلق لا أكثر، ووظف نتائجها في التسوية، فهو المسؤول عن عنونة المرحلة بمرحلة السقوط، لأنه أخرج مصر ذات الثقل العربي الأساسي من دائرة الصراع العربي الصهيوني وواجباتها القومية، وفتح الباب للمشروع الإمبريالي الأمريكي الصهيوني في المنطقة العربية.
وبدأ بضرب القطاع العام والإنجازات الاشتراكية التي تحققت في المرحلة السابقة وقلب الوضع الاقتصادي وأدخل مصر في سياسة الانفتاح والخصخصة والرأسمالية.. فدخلت مصر مرحلة انهيار ازداد فيها الفقر ونمو ثروات الطبقة الطفيلية القائمة على السمسرة والنهب.
وأمام الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وقبل وبعد الفرز الواضح بين التيارين السابقين، كان الجميع يشعر بضرورة تحديث الفكر العربي، ومتابعة خطوات المشروع النهضوي، وأخذ المفكرون يبحثون عن المخرج من خلال خلفياتهم الثقافية والأيديولوجية، ولكن حدث نكوص كما قلنا إذ عاد الجميع إلى السؤال المنهجي الذي طرحته المرحلة الأولى من النهضة وهو: كيف ننهض؟
ومع أن الجواب كان استنساخاً وتكراراً لمقولات المرحلة الأولى في التراث والاجتهاد والتأويل والعلم، حتى قضايا الحرية والديمقراطية والعلمنة.. إلا أن الجديد هنا انتشار الفكر النقدي العلمي المبني على نظريات المعرفة الحديثة.
وفي الوقت الذي لم تتفاعل فيه خطابات المفكرين التحديثيين في الشارع العربي، كانت الحركات الدينية التقليدية تستقطب الشارع في خطابها المستند إلى الدين.
التيارات الدينية:
لقد أخذت الحركات الدينية تقوى على امتداد هذه المرحلة وحتى الآن. وازدادت تغلغلاً بين صفوف الشعب الذي أكثريته متدينة. وهناك أرضية تاريخية للدين الإسلامي وأبعاده الروحية والاجتماعية في الوطن العربي كله، ولكن التدين كان متفاوتاً نسبياً فهناك من هو مؤمن بالدين ولكنه لا يمارس الشعائر، وهناك من لم يتجاوز تدينه أطر الشعائر ولا سيما في رمضان، وهناك من يتبع شيخاً ما أو داعية، وأخيراً هناك المنظمون في أحزاب وحركات إسلامية شعبية.
وليس التفاف الجماهير حول الحركات الدينية ظاهرة عابرة ومصادفة، فهي لها منطقها الواقعي، والامتداد له أسبابه المتعددة وأهمها:
 1- يأس الجماهير العربية من كل الأيديولوجيات التي طرحت، ومن أنظمتها الرسمية في كل المجالات، حيث وقفت متخاذلة تجاه القضايا القومية في فلسطين ولبنان.. وعجزت عن حل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقضايا الحرية والكرامة والديمقراطية.. والمعاناة المرة من انهيار القيم والغرق في مستنقع من الفساد والرشاوى والإهمال والتسيب والفوضى والتمايز.. وما رافق ذلك من انحلال في الحياة والثقافة والفن.
وكانت معضلة التفاوت في كثير من الدول العربية قد أدت إلى بروز تناقض حاد بين الفقراء والأغنياء فازداد فقر الفقراء والبطالة، بينما ازداد ثراء الطبقة الحاكمة وحاشيتها والطبقة البرجوازية الطفيلية الوسيطة. وفي الوقت الذي نعمت فيه الأقلية الغنية بالسلع الاستهلاكية والرفاهية والمتع الرخيصة والبذخ والإسراف، افتقرت الغالبية العظمى إلى الحياة الكريمة وعاش الكثيرون على الكفاف أو تحت خط الفقر، بل منهم من لم يجد المأوى أو لقمة الأكل.
1-    وأدرك الكثيرون بأن حصر أهداف الإنسان العربي في تأمين وسائل الحياة المعيشية هو قتل لإنسانيته وهدر لكرامته، وهو عملية مدروسة لصرف العربي عن قضاياه الأساسية! هيمنة الإمبريالية الأمريكية، وتزييفها حقيقة الصراع حيث ازدادت الهجمة الإمبريالية الأمريكية وحليفتها الصهيونية ومن ورائهما الغرب الذيلي، ليس فقط ضد الحركات الإسلامية الأصولية وحدها بل ضد العرب والمسلمين وشعوب العالم المقهورة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
2-    ضعف الحركات الوطنية الشريفة الرافضة للواقع العربي المنهار والتسوية، في المنافسة الجادة في الاستقطاب. وتدني شعبية الفكر القومي والاشتراكي واليساري إلى أدنى الدرجات.
3-    نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وإعلان قائدها الخميني أن نهوض المسلمين لا يكون إلا في الإسلام، أعطى عدة نتائج منها:
-  خافت دول الخليج والسعودية من تصدير الثورة إليها، فاندفعت للعب على وتر الطائفية فأججت الأحقاد، وفتحت المجال للأصولية السنية التكفيرية لمواجهة المد الإيراني تحت شعار خطر اجتياح طائفية إيران الشيعية.
-  خشية الغرب وعلى رأسه أمريكا من التحرك الإسلامي ضد مصالحه، ولا سيما بعد دعوة الخميني إلى محاربة أمريكا " الشيطان الأكبر" فبدأت حملة معادية للمسلمين وإيران، وقد تصاعدت موجة العداء وما زالت مستمرة حتى الآن.
 - ازدياد نشاط بعض الأحزاب والحركات الدينية السنية لنقل التجربة إلى العالم العربي، ولا سيما التي تحمل برنامج الاستيلاء على السلطة لإقامة النظام الإسلامي، مما أدى إلى صدامها مع السلطات.
4-    خشية بعض الأنظمة من انتقال الحركات الدينية المسلحة إليها للعمل ضدها، دفعتها إلى تشجيع انتشار الدين غير المسيس في بلادها من خلال البرامج والدعاة والكتب، ليكون ذاك التيار الديني المسالم تحت سيطرتها وبعيداً عن التأثر بتلك الحركات الدينية المسلحة، ولسان حالها يقول أنا مع الدين وانظروا ماذا أفعل!
5-    بروز التيار الديني الثوري " الجهادي" في لبنان ثم في فلسطين،  ظهور القاعدة وما حققته من إنجازات على الأرض.
ذاك المد الديني رافقه ازدياد نشاط الجمعيات الدينية والحركات والأحزاب والدعاة، وكثرة المدارس الدينية والمعاهد والجامعات.. وازدياد نشر الكتب الدينية وازدياد الإقبال عليها، وقد فاقت مبيعات الكتب الدينية كل أنواع الكتب الأخرى كما تشير إلى ذلك نتائج المبيعات في معارض الكتب.
لقد أطلق المفكرون الإسلاميون على المد الديني تسمية النهوض الإسلامي " الصحوة الإسلامية ". وهي تمتلك في هذه المرحلة عوامل ديناميكية حيوية وفعالة تجعلها تستمر وتتعاظم، مقابل تخاذل الأنظمة العربية وإدارة ظهرها للجماهير الشعبية وتطلعاتها وآلامها ومعاناتها.
وتيار المقاومة الإسلامية (حزب الله وحماس والجهاد) أدرك بأن المرحلة هي مرحلة تحرر وسيادة وطنية لها الأولوية، فلا نهضة دون تحرير وحرية، لذا يجب تجنيد الجميع لخوضها فأسس لإعادة جدلية الوطني/ الديني، ودون إهمال للبعد العربي والإسلامي للقضية ومواقف الدول العالمية الصديقة.
ووعي ذاك التيار لحقيقة الصراع ومعوقات النهضة، تجاوز وعي معظم التيارات الليبرالية واليسارية والدينية التقليدية، فهو على الرغم من أنه يعرف تماماً بأن معظم الأنظمة العربية تخلت عن واجباتها تجاه فلسطين، وأن دول العالم لا تقبل بإزالة الكيان الصهيوني، تابع طريقه الذي اختاره واثقاً من إرادته على مواجهة تلك التحديات الكبيرة.
ولأول مرة في التاريخ الحديث تربط معظم التيارات الدينية ومعظم المفكرين، الدينَ الإسلامي بالقضية الوطنية والقومية في مواجهة وتحدي ومحاربة الإمبريالية الأمريكية والأوروبية والصهيونية، كخطاب وممارسة مما قوى الحركات الدينية في نظر الجماهير الشعبية.
وأمام ازدياد المد الديني عاد المفكرون لقراءة التراث الديني، كما حدث في قراءات مفكري المرحلة الأولى في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ولكن خلفيات المفكرين المعاصرين في قراءة التراث اختلفت عن أولئك نتيجة تبدل الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمناهج الفكرية، وأيضاً مواقع المفكرين في جدلية تلك التغييرات والتطورات.
وقد برز اتجاهان في القراءات المتعددة للتراث، الأول: استحضر الماضي ليقرأه على ضوء الحاضر، بينما الثاني: أرجع الحاضر إلى الماضي ليقرأه على ضوئه، ناسفاً عشرات القرون من التطور.
والاتجاه الأول أنتج رؤى تحديثية، بينما الثاني بقي يراوح في مكانه يكرر مقولاته الرفضية والمكفرة، لأن منهجيته القديمة المتغلغلة في الشعور أو اللاشعور غير قادرة على التجاوز، وقد رفضت وبعنف إخضاع التراث إلى العقل والعلم، ولم تقتنع بأن الحرية والديمقراطية وكرامة ‏الإنسان العربي هي المدخل الحقيقي لحمل لواء التحديث وبناء الأمة.. لذلك أخفقت الرؤى المتعددة لذاك التيار في جدلية التراث والتحديث.
أطروحات:
 آ- التيار التراثي التحديثي
ب- التيار التراثي العلماني
لا بد هنا من مناقشة بعض ما طرحه التيار التراثي بشقيه التحديثي والعلماني، لاستنتاج القواسم المشتركة منهما مع الآخرين ضمن الرؤية التجديدية.
آ- التيار التراثي التحديثي:
هناك صراع فكري حاد في عصرنا بين التراثيين والتحديثيين حول الموقف من الدين والدائرة المغلقة التي أسسها الفقهاء والغزالي ثم ابن تيمية. فالتحديثيون اخترقوا الدائرة ومسوا المحظورات الدينية التقليدية على مستوى النص البنية والحديث.. وطرحوا أفكاراً وفهماً جديداً للدين/ القرآن/ الحديث/ الفقه.. ورفضوا فهم الأوائل والمعاصرين السلفيين للإسلام.
وقد اختلفت اتجاهات هذا التيار حول أرضية التحديث، فمنهم من يراها تبدأ من القرآن فقط (القرآنيين) لأنه جامع وما عداه مرفوض، وقلة تقبل الأحاديث المقبولة عقلياً. وبعضهم ينطلق من عقلانية المعتزلة والفلاسفة كابن رشد كأرضية للتحديث، وآخرون يبدؤون من التحليل والنقد العلمي مباشرة.
وهناك مفكرون كثر مثل د. حسن الترابي وجمال البنا.. لكن يكفي أن نتناول مفكراً واحداً كنموذج وهو د. حسن صعب الذي يقول: ( إن التحديث يتطلب أولاً تجديد مفهومنا للكتاب وللكلمة الإلهية. ولا بد أن يكون هذا التجديد منهجياً لا عشوائياً. ولا بد أن تستند منهجيته إلى مبدأ ذاتي إسلامي لا إلى المبادئ المنهجية الحركية الحديثة وحدها[13] ). وهو يرى في ابن رشد وابن خلدون إضافة إلى ابن حزم و الشاطبي أساساً معقولاً للانطلاق من التراث.
لقد دعا إلى تحديث الفكر الديني بالاستناد إلى ثلاث نقاط:
1-    العقل قبل النقل فالعقل يأتي أولاً ثم النقل، أي العقل يرجح على النص.
2-    الاجتهاد،
3- الديمقراطية.
ورؤيته مع كثيرين بإحياء منهجية المعتزلة تلتقي د. زكي نجيب محمود – مع أنه من التيار التراثي العلماني- إذ يقول: (فإذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا فليكن هو موقف المعتزلة و الأشاعرة معاً[14])
وقد عدّ صعب تطبيق مصطفى كمال/ أتاتورك للعلمنة بفصل الدين عن الدولة اجتهاداً، وكذلك موقف بورقيبة من عدم الصيام أثناء العمل، وتعدد الزوجات.
ب- التيار التراثي العلماني:
خطاب مفكري هذا التيار في تحديث الفكر العربي الإسلامي يعتمد على أرضية العقل والعلم الحديث والديمقراطية بما تتضمنه من أبعاد كحقوق الإنسان وحرية الفكر والانتماء والتعبير والتسامح.
وهم مجمعون على أن في التراث قضايا لا تصلح للمعاصرة وبالتالي يجب تجاوزها، ولكن التجاوز كلمة فضفاضة وفيها إشكالية، فقد يكون التجاوز عبر الغربلة كما عند زكي نجيب محمود - وهو من الوضعيين- والغربلة قائمة على الانتقائية المبنية على النفعية/ البراجماتية، بينما عند أدونيس - وهو علماني- تصب الانتقائية في خانة الإمام المعصوم والباطنية.
وهناك قواسم مشتركة بين معظم هؤلاء ولا سيما مفكري المغرب العربي في المناهج المستمدة من الحداثة الغربية مثل: (فلسفة الجدلية المادية التاريخية/ ماركس، والعقلانية العلمية/ لالاند وباشلار، ‏والإبستمولوجيا التكوينية/ بياجيه، والبنيوية/ شتراوس وألتوسير ولاكان، والتفسير ‏والتأويل "الهيرمينوطيقا"/ هيدغر وغادامير، والحفر في عمق النص للوصول إلى ‏الجذور "الأركيولوجيا"/ فوكو، وتفكيك النص وإعادة تركيبه/ دريدا.‏)
فالعروي يتقاطع مع أركون في قضايا كثيرة أهمها منهجية البحث، وتوليد منهجية الأسئلة ولعل طرح السؤال بشكله المنهجي العميق أهم من الإجابة نفسها كما يرى. كما أنه أي العروي ينظر بمنظار تاريخي لأنه المعطى الأول في أيديولوجيا المعرفة، واعتمد على المنهج الجدلي الماركسي في دراسة وتحليل ونقد واقع العرب الماضي والتراث والمعاصرة مجتمعاً ومؤسسات، ولكن ضمن فهم خاص يرتبط بقاعدة العصر الحديث " الفكر الليبرالي" كما يرى، ولكنه طالب أن يكون للعرب ماركسهم الخاص بهم، رافضاً استنساخهم لماركس كما هو، لأن رؤيته تتعلق بالخصوصية الغربية. وقد حاول ضمن المنهجية التاريخية دمج الدين والعلم والماركسية معاً.. كما دعا إلى الإصلاح الثقافي أولاً ثم الإصلاح السياسي، والحل كما يعتقد بيد السياسي.
إن المنهجية العلمية النقدية تتيح رؤية مجريات الأحداث وحركة التاريخ بشكل موضوعي على أرض الواقع المادي، إن تمت ضمن رؤية جدلية العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية، وابتعدت عن هالة تقديس التاريخ أو الشخصيات أو الأفكار.
د. زكي نجيب محمود:
الحل الذي يقدمه زكي نجيب محمود للتجديد هو الغربلة وهي قائمة على المذهب النفعي/ البراغماتي: (فإذا كان عند أسلافنا طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن، أخذناها وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث، وأما ما لا ينفعنا نفعاً عملياً تطبيقياً فهو الذي نتركه غير آسفين)، (نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه اليوم تطبيقاً عملياً[15]..) وما لا ينفع يوضع على الرف لينفع المؤرخين فقط.
ويؤكد على الثنائية الروحية والمادية والتي تشطر الوجود إلى شطرين: (الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلي والحادث، أو قل هما السماء والأرض، إن جاز هذا التعبير[16])
والتراث كما يرى مزيج من المعقول و اللامعقول؛ فالمعقول يصلح ربطه بالحاضر، واللامعقول لا يصلح كالتصوف والكرامات والأولياء والسحر والتنجيم.. إلا أنه يذكر: (إن دراستنا للتراث دراسة علمية واعية تنتهي بنا هي نفسها إلى ترك مادة التراث من حيث هي مضمون فكري بذاته وخصائصه[17])
وهو يستثني من الغربلة القيم: (الإسلام مجموعة من القيم التي لا أحسب عاقلاً على وجه الأرض يرفض شيئاً منها من حيث هي مثل عليا[18]) لكنه لم يحدد تلك القيم المطلقة، والتي تضيع عندما يطالب بأن يكون التحول من الجذور والمبادئ: (لا تحول إلا إذا بدآناه من الجذور: من المبادئ، نقتلعها لنضع مكانها مبادئ أخرى فنستبدل مُثُلاً عليا جديدة بمثل كانت عليا في أوانها ولم تعد كذلك[19])
والتحول يمس النص القرآني، وإن ورد كمثال وليس ضمن منهجية واضحة كحديثه عن القوامة والتعدد وهما من آيات القرآن، فهو يتحدث مثلاً عن المرأة المتعلمة والمثقفة إذا كانت وزيرة أو عضوة في مجلس الشعب أو دكتورة في القانون.. فهل يمكن أن يقال لها: (ما كان يقال لسالفتها من قوامة الرجال عليها بالمعنى القديم، ومن حق الرجل في أمثالها العاملات العالمات المثقفات القائدات مثنى منهن وثلاث ورباع[20])
والمعقولية في التراث تبدأ من المعتزلة و الأشاعرة معاً: (فإذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا فليكن هو موقف المعتزلة و الأشاعرة معاً[21] )
والاستفادة هي من منهجية الفكر المعتزلي وتلك الاستفادة من التراث العقلاني هي شكلية لأنها في الصورة لا في المضمون أي الأفكار التي ناقشوها: (ما نأخذه من تراثنا هو الشكل دون مضمونه[22])
تطرح رؤية د. زكي أسئلة إشكالية:
من الذي يحق له أن يغربل، أن يختار، أن يحدد ما هو معقول وصالح للعصر، ويرفض ما عدا ذلك؛ أهو عقل الفرد أو عقل مجمع التجديد، وما الأسس العلمية العقلانية التي يستند إليها؟ وما مدى الثنائية المادة والروح، وما حدودهما والعلاقة الجدلية بينهما في غربلة بعض القضايا؟
وما فائدة تكرار مقولات المنطق والعقل والعلم دونما تحديد واضح وملموس لكل صغيرة وكبيرة؟
د. محمد أركون:
يرى أرغون أن الغرب يسيطر على المناهج العلمية والفكرية لذلك يلجأ الباحثون العرب والمسلمون إلى كتابات المستشرقين لمعرفة تاريخهم و الإطلاع عليه: (لأن العرب والمسلمين لم يدخلوا بعد في مرحلة البحث العلمي والإنتاج الذاتي للبحوث التاريخية الرصينة. أو قل ابتدءوا يدخلون ذلك مؤخراً، ولكن ليس بالشكل الكافي حتى الآن[23] )
إن تطبيق نظرية المعرفة النقدية (Épistémologie) كمنهج نقدي نظري وعملي "قراءة نقدية تفكيكية - تركيبية" يعني الحداثة وهي الانتقال من مرحلة العقل الدوغمائي إلى العقل العلمي النقدي المنفتح والمتطور باستمرار.
وتطبيق الأبستمولوجيا التاريخية على التراث الإسلامي هدفها: (الدراسة النقدية والعلمية للتراث هي وحدها القادرة على كشف جوانبه الإيجابية وتبيان قيمته الحقيقية، وفتح الطريق لتجاوز سلبياته التي لا تزال تعيق نهضة العرب والمسلمين عموماً[24] ). وهو يدعو إلى الاستفادة من (المنهجية التعددية) لكل أنواع العلوم.
وله رؤيته في التحرير الفكري: (في الواقع إن التحرير لا يمكن أن يحصل ما لم نقم بتفكيك جذري لماضي كل أمة أو كل طائفة دينية من أجل فهمه وإعادة تقييمه من جديد، ثم من أجل طرح ما لم يكن صالحاً فيه والإبقاء على العناصر الإيجابية التي يمكن استخدامها في البناء الجديد. لذلك أقول بأن الأولوية الآن هي لتطبيق النقد التاريخي و الألسني و السيميائي "الدلالي" و الأنتربولوجي على التراث[25])
والخطاب الديني القرآني كما يرى قائم على الرمز والمجاز، ولهذه الخصوصية يجب أن يقاس بمعايير مختلفة عن معايير الخطاب العلمي، فتلك اللغة المجازية العالية تحتمل تأويلات وتفسيرات متعددة وكل فئة اجتماعية تاريخية فهمت القرآن بطريقتها وحولته إلى عقيدة لها وانغلقت عليها، واعتبرت أية قراءة ورؤية مغايرة لها ضالة/ كافرة. وهكذا نشأت الفرق الإسلامية عبر التاريخ وكل منها يدعي بأنه الإسلام الصحيح، فأيها نصدق كما يقول؟ والسنة فرضوا رأيهم لأن السلطة السياسية كانت معهم وتدعمهم "الأمويون والعباسيون والسلاجقة والعثمانيون "
ويرى الحل للخروج من تلك الانقسامات العودة إلى الأصل وهو القرآن لأنه مشترك عند الجميع وهو ليس بسني أو شيعي، أما الفروع فهي التي تفصل وتفرق.
وهذا يعني نزع القداسة عما تأسس على الظاهرة القرآنية فهو من صنع بشري مرتبط بالسلطة لإقامة دولة، والسلطة صادرت الدين لمصلحتها وأضفت على مفهومها القداسة وفرضته لتعطي الشرعية لنفسها. وما طبق في الشريعة البشرية التي أخذت الصفة الإلهية قليل، فالقرآن لم يطبق حقيقة كما يقول. والقرآن فيه قيم ومثل كنظرية أما التطبيق فكان مخالفاً، فهناك فرق بين النص الإلهي المفتوح/ المنفتح، والبشري المغلق في التطبيق.
كما ميز أركون بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية فالظاهرة الإسلامية تاريخية[26] وعندما جاء ابن تيمية صنع حول الدين (السياج الدوغمائي المغلق) مانعاً أي أحد من اختراق المحظورات، ورافضاً أي تجاوز لمفاهيم ابن حنبل. وهناك أسيجة مصغرة ضمن السياج الكبير الدوغمائي الإسلامي العام وقد استمر ذاك السياج حتى الآن.
ومفهوم السياج و الدوغمائية وامتلاك الحقيقة المطلقة لا يقتصر على الدين الإسلامي بل يشمل الأديان كلها، والحل: (ولا بد من إحداث القطيعة الإبستمولوجية، وبالتالي العقلية، مع المفهوم المطلق للحقيقة اللاهوتية المسيطرة في الأديان الثلاثة كافة من أجل إقامة المساواة في الحقوق والواجبات على المستوى القانوني بين أنواع البشر كافة[27])
يقسم أرغون العلمنة إلى علمنة إيجابية وعلمنة سلبية وما يهمنا هنا العلمنة الإيجابية فهي موقف الروح أمام مشكلة المعرفة، والظاهرة الدينية تشكل أحد أبعاد الإنسان والمجتمع ولا يجوز الاستهانة بها أو الانصراف عن دراستها (إنها الموقف الحر والمفتوح للروح أمام مشكلة المعرفة، ولا شيء ينبغي أن يحول بين الإنسان وبين كشف المجاهل المادية أو الروحية للوجود. وهذه هي العلمنة الإيجابية في رأيي. إنها تأخذ الإنسان في كليته المادية والروحية دون أن تؤثر بعداً من أبعاده على حساب البعد الآخر[28])
وقد انتقد أركون العلمنة الغربية لفقدانها الروحانية والقيم الدينية مما أفقدها التوازن. فالحداثة الغربية لها وجهان: وجه قدم إنجازات عظيمة على الصعيد العلمي والتكنولوجي والفكري والحضاري، والوجه الآخر سلبي مادي يكمن في نظرتها المنفعية، فالمفيد في نظرها هو المادي والاقتصادي وحذفت البعد الروحي. وقد ارتكبت أوروبا خطأ في: (حل العقل محل الدين في أوروبا)، و(حلت الأخلاق العلمانية محل الأخلاق الدينية) كما في أوروبا وأمريكا الشمالية وتركيا[29]
ولكن أركون لا يدعو للعودة إلى المفهوم التقليدي للدين الكلاسيكي، وإنما عن طريق استنباط أشكال جديدة للأخلاق والروح والمعنى.
إن التحديث الذي طرحه التيار التراثي العلماني[30] يلتقي معظم أطروحات التيار الديني التحديثي في:
1-    أهمية الجانب الروحي المستند إلى القرآن وحده لأنه الأساس الجامع للطوائف كلها.
2-    مجازية الخطاب القرآني، وبما أنه لا توجد مرجعية علمية واحدة للظاهر الحرفي الحقيقي والمجازي، يصير عقلُ القارئ وفكره وثقافته ووعيه المرجعيةَ في إطلاق المجاز على أي طرح لا يقتنع به.
3-    إبقاء التأويل مفتوحاً على التاريخ، ولكل عصر فهمه المناسب لتطورات الحياة والفكر والعلوم.
4-    رفض الرؤية الأحادية الدوغمائية.
5-    العلم.
6-    المنهج النقدي.
7-    قضايا الحرية والديمقراطية والعدالة..
إن قضية الاجتهاد والتأويل ليست بحديثة فهما مقولات قديمة ولا حدود لهما وإن وضعت قواعد لهما، فالتأويل لا يستند إلى أية أسس علمية أو عقلية، وقد كان مفتوحاً تاريخياً عند الباطنية وخضع لمزاجية مصنف الشروط.
وقضية المعتزلة التي وقف عندها الكثيرون من رواد النهضة والمعاصرين استهلكت فالمعتزلة لم يكونوا عقلانيين بالمطلق وقضايا العقل عندهم محددة، يقول د. خليل أحمد خليل: (لقد بات محققاً أن مسعى المعتزلة للتقريب بين المعقول والمنقول سيأخذ المنحى التوفيقي الذي يصل، أحياناً، إلى مرتبة التلفيق[31])
وقد قدموا كل ما عندهم ولم يبق أي شيء في جعبتهم لذلك انتهوا، والفكر في النهاية - في تلك العصور- ‏محكوم ضمن منظومة دينية سياسية اجتماعية اقتصادية مغلقة، وليس بوسعه تجاوز تلك ‏المنظومة دونما حدود. والعودة إليهم لن يقدم أي جديد فالحضارة قدمت أقصى ما تستطيع واستهلكت تماماً، ولم تعد تحمل سمات التجديد والإبداع لأن عوامل النمو الداخلي توقفت وانتهت عند أفق مقيد بظروف مكانية و زمانية.
وقد شكك الراحل حديثاً د. نصر حامد أبو زيد بعقلانية المأمون فتساءل هل موقف المأمون نتيجة عقلانيته، أم سلطته الغاشمة القامعة لمن لا يطيع، أم لهدف غير معلن وهو تأديب بعض الحنابلة لأنهم رفضوا الانصياع لسلطة عسكره في بغداد في الوقت الذي كان مشغولاً بقتال أخيه الأمين في مرو؟
لقد استمر الفكر المعتزلي أربعة عشر عاماً في عهد المأمون والمعتصم والواثق، إلى أن جاء المتوكل فقضى على الفكر المعتزلي وأعاد العجلة للوراء للفقهاء. ولم يتمكن الأشاعرة من الحلول مكان المعتزلة مع أنهم كانوا وسطاً بين المعتزلة والسنة، والسبب لأنهم لم يتخلوا عن العقل كلياً.
إن الدعوة لإحياء منهج المعتزلة لن يفيد إلا في إصلاح العقيدة و‏الدين وليس التحديث. وتبني المنهج العقلي في قراءة الخطاب الديني لا يتطلب العودة لهم إنما يكفي التأكيد على سيادة العقل وبأنه هو الذي يقرر الحسن والقبح أي بوضع العقل قبل النقل، وهذا جوهر الموضوع لأن النقل والعقل هما محور الصراع الفكري بين المحافظة والتحديث.
كما أن العودة إلى ابن رشد لن تفيدنا بشيء وهذا يتطلب استحضار أهم أطروحاته وبما يناسب هذه الدراسة لنطلع على أهم ما طرحه ابن رشد:
1-    التوفيق بين الفلسفة/ الحكمة/ العقل/ الرأي، والدين/ الشريعة/ الوحي.
2-    التوفيق بين العلم والدين.
3-    التأويل: الشرع له ظاهر وباطن فإن حصل تعارض بين الظاهر والعقل فلا بد من التأويل للوصول إلى باطن النص العقلاني. وتأويل الشرع خاص بالفلاسفة لأنهم يدركون مقاصد الدين. وابن رشد صاحب ‏مدرسة تأويل النصوص الدينية عقلياً، والتي لا يمكن أن تحظى بالإجماع، لذلك لا يجوز تكفير أحد على تأويله كما قال.
4-    منطق أرسطو: هاجم منهجية المعتزلة في علم الكلام، واعتمد على منطق أرسطو.
وابن رشد يرى أن الفلسفة تدعم الدين ولا تناقض بين العلم والدين، وقد وظف الفلسفة لصالح الدين فهي فلسفة دينية حاولت التوفيق بين النقل والعقل، باللجوء إلى التأويل في حال التضارب بينهما.
إذاً لم تعد هناك أية إضافات جديدة على قضية العقل والنقل، لأن الإيمان والعقيدة والعبادات قائمة على النقل وليس على العقل، أي التسليم مسبقاً، وليست هذه إشكالية العصر.
أما قضية الظاهر والباطن التي طرحها ابن رشد ووردت عند الباطنيين الإسلاميين قديماً بتأثير من الغنوصية[32] اليهودية والمسيحية فلم تصل إلى رؤية واحدة. والتأويل الذي يكشف الغطاء عن الباطن لا يستند إلى أية أسس علمية أو منطق، وإن حاول البعض وضع ضوابط له، فهي مزاجية فردية تعكس مفاهيم وثقافة محددة تسقط قسراً على النص.
وهناك مفكرون كثيرون من التيار الديني التحديثي نظروا إلى خطاب القرآن كمجاز عقلي غير حقيقي، كما أن هناك كثيرين أيضاً من التيار التراثي العلماني تبنوا تلك الأفكار كمحمد أركون ونصر حامد أبو زيد (راجع كتاب نصر حامد أبو زيد: "دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة"). وهو في كتابه عن ابن عربي (هكذا تكلم ابن عربي – 2001) يتحدث عن رؤيته لجدلية الظاهر والباطن في النص القرآني، وتأسيسه لدين الحب بين الحق والخلق يتجاوز العقائد والأديان فقلبه المفعم بالحب الإلهي يتسع لكل دين، فتكون تلك النظرة الإنسانية كونية تتسع لكل الثقافات والحضارات.
وتلك القراءة تؤدي إلى قراءة جديدة تخرج كثيراً من آيات القرآن من الأحكام التي تشير إليها الدلالة المعجمية الحرفية التي تمسك بها الأصوليون.
كما أن الكشف العرفاني ليس بالحقيقة العلمية وقد قال د. محمد عابد الجابري عنه بأنه: ( ليس شيئاً فوق العقل كما يدعي العرفانيون بل هو أدنى درجات الفعالية ‏العقلية. ليس شيئاً خارقاً للعادة، ليس منحة من طرف قوة عليا بل هو فعل العادة ‏الذهنية غير المراقبة فعل الخيال الذي تغذيه، لا المعطيات الموضوعية الحسية ولا ‏المعطيات العقلية الرياضية، بل معطيات الشعور حالم غير قادر على مواجهة الواقع ‏والتكيف معه والعمل على السيطرة عليه سيطرة عقلية أو مادية أو هما معاً، فيلجأ إلى ‏نسج عالم خيالي خاص به ينتقي عناصره من الدين والأساطير والمعارف الشائعة، ‏والتي تحمل طابعاً سرياً بصفة خاصة. وبما أن أرض الواقع تكذب هذا العالم، وبما ‏أن التاريخ يرفضه، فإن العرفاني يهرب به إلى عالم الميثولوجيا[33] "المُفَلسَفة"، عالم ‏الأفلاك والعقول السماوية الإلهة، عالم أسطورة الإنسان السماوي - أو الإنسان ‏الكامل- التي تجد أصلها في الديانات القديمة والتي تبنتها الهرمسية وجعلت منها أحد ‏عناصر فلسفتها الدينية الأسطورية الطابع، "فلسفة" المبدأ والمعاد[34])
وذكر الجابري أن الجهد الذي بذله ‏الفلاسفة الإسماعيليون وعلى رأسهم الكرماني ليس هدفه تسويد العقل إنما نفيه[35] ( العقل)
إن سبيل فهم النص القرآني هو اللغة ومدلولاتها بما في ذلك البلاغة الفنية كالاستعارة، لأنه باللغة العربية يخاطب العرب وليس فيه لغتان. أما القول بأن ذلك هو الظاهر وهو لمن عقله محدود ساذج وغبي، منحط القدرات لأنه لا يستوعب العمق والإشارة والمجاز وما وراء النص.. فهذا يدل على الغطرسة والتبجح والتعالي، والاستخفاف بعقول الآخرين، لأنه يقسم الناس إلى قسمين: ذاك العقل المحدود أحدهما، أما الآخر فهو النخبوي العبقري "الأرستقراطي" الذي يمتلك المعرفة والفهم، بينما هو يميع الفهم ويضيع المعاني بشطحاته اللا محدودة.
والرؤية الباطنية قراءة خاصة تخلق نصاً آخر موازياً للنص الأول ولكنه لا يمت إليه بصلة، وعلى الرغم من ذلك تمنحه الرؤية المقدسة كما هي للنص الأصلي.
واللجوء إلى خلق نص جديد له دوافع عديدة فقد يكون منبعها عدم اقتناع القارئ بما يطرحه النص الظاهر لتعارضه مع العقل في الوقت الذي يؤمن به بأنه نص إلهي. أو يريد القارئ خدمة أفكار مسبقة يبحث عن شرعية لها فيوظف النص ليدعم تلك الأفكار والمفاهيم. أو قد يدفع الإيمان بالبعض إلى نوع من الحب والغيرة فيحمل النص أبعاداً لا حصر لها ليمنحه أكثر ما يستطيع من العظمة والتفرد وهو بذلك يحمل النص ما لا يستطيع النص أن يحمله، فتؤدي محبته المفرطة إلى نتائج عكسية.
مشروع الخطاب الثقافي الفكري الجديد
لقد تم بشكل سريع ومكثف مناقشة أهم الأفكار التي طرحها المفكرون منذ بدء النهضة، لأن التأسيس لأي جديد لا بد من أن يبنى على الماضي (تحليل وتفكيك) ثم التركيب والبناء الجديد، وقد بينا أن صراع التيارات الفكرية العربية والإسلامية في مراحل النهوض كشفت عن تناقضات حادة، لذلك الهروب من مواجهة تلك الحقيقة أو القفز عنها أو تغييبها لم يوصل التيارات الفكرية إلى حل إشكالية جدلية التراث الديني مع التحديث والتحرير، وتحول الهروب من المواجهة إلى الضياع في دوامة من التحليلات، وتحول الحوار من أجل حل الإشكاليات إلى البقاء أسرى في الحوار المفتوح والمكرر إلى ما لا نهاية. كما تحول النقاش والنقد إلى هجوم لا علمي ضمن دائرة تكرر فيها الاتهامات المتبادلة بالتحريف أو الانحراف أو الكفر.. ولم تتحول الكلمة إلى العمل الإيجابي وهو الجوهر، وضاعت ممارسة الأفكار الخلاقة وهي الجوهر، وتميعت مقاييس المصداقية والإخلاص.
ذلك الجدل هو بصورة عامة استمرار للصراعات التقليدية القديمة منذ بدء النهضة ومعظمها كان ضمن البنى الفوقية ولا سيما بين التيارين الديني الأصولي والتحديثي على اختلاف مشاربه ولم يتوصل المتصارعون إلى حل وتفاهم، بينما الشعب بقي معزولاً خارج الموضوع.
ومع أن الجميع يتحدث عن الإنسان بأنه هو الأساس في هذا الوجود وصونه وحفظ كرامته وحريته هو الهدف الذي يجب أن يكون من وراء الحضارة والفكر، غير أن الإنسان العربي ما زال غارقاً في الفقر والأمية والجهل وفقدان أبسط حقوق الإنسان في الحرية والأمن والكرامة والعلم والعمل ولقمة العيش والصحة.
لقد تم استعراض الأفكار المتنوعة والمتعارضة خلال مراحل النهوض، ودراستها لتجاوز الإشكاليات الخلافية المفرقة، للوصول إلى القواسم الإيجابية المشتركة بينها، وقد تم تجاوز التيار الأصولي التقليدي المتشدد لأن له رؤيته الأحادية التي لا يحيد عنها وبالتالي يصعب الحوار الديمقراطي معه. وهو ليس مالكاً للحقيقة فهناك كثيرون غيره من تيارات واتجاهات وأصحاب اجتهادات ورؤى تحديثية تجاوزته ولا تقبل مفاهيمه. فلا بد له عاجلاً أو آجلاً أن يستوعب بأن الكون/ الوجود/ الحياة/ التراث، كتاب مفتوح ولكل إنسان قراءته ولا يمكن إهمال القراءات مهما تعددت، وإن لم يتفاهم ويتفق مع الآخرين ويحترم كينونتهم وفكرهم وعقلهم، يبق معزولاً.
‏إن رؤية الواقع كما هو لا تتم بمعزل عن رغبات الإنسان وأمانيه لما يجب أن ‏يكون، ولكن الانطلاق من الفكر إلى الواقع وإسقاط ما هو في الفكر على الواقع يؤدي إلى عالم خيالي مبني على الأوهام، بينما ‏الانطلاق من دراسة الواقع الملموس بتحليله بشكل موضوعي ‏وعلمي، واستيعاب معطياته الثقافية والأيديولوجية، قد يؤدي إلى الوصول لرؤية فكرية مناسبة تحقق بعض الرغبات والأماني .والموضوعات التالية كانت وما تزال محور الأطروحات وقضايا التحديث:
القضية الوطنية والقومية والمقاومة، الغرب الإمبريالي المتصهين، حقيقة الموقف الأمريكي، العنصرية الغربية على الصعيدين الفكري والأيديولوجي، التيار الديني الثوري، التحديث والمعاصرة، الدولة وطبيعة النظام، الديموقراطية، الإيمان والدين، الأخلاق، الدين والعلم، التيارات الدينية والديمقراطية.
وما نطرحه مجرد رؤية عقلانية تضع الأولويات في سلم مصلحة الوطن والشعب وتكمن أهميتها في المنهج كمدخل للحوار الديمقراطي لمناقشتها وتعديلها وإغنائها للوصول إلى صياغة نظرية المعرفة العربية للنهوض.
القضية الوطنية والقومية والمقاومة:
في هذه المرحلة مرحلة الفرز الطبيعي الذي ساد المنطقة تصير أرضية المقاومة والمصداقية والإخلاص هي الخطوة الأولى المفصلية، وهذا يتطلب وضع برنامج مرحلي متفق عليه بين القوى يناسب مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية ونشر ثقافة التحرير والوحدة والنهوض، والأولوية فيه تعميم برنامج المقاومة وثقافتها، وقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وكل أشكال التطبيع السائدة، وتحرير الدول العربية من التبعية لمشاريع أمركة المنطقة وصهينتها. لقد تبلور الصراع في برنامجين متناقضين، إضافة إلى الصراعات الفكرية السابقة:
برنامج المقاومة والتحرير ضد برنامج الاستسلام والسير في العجلة الأمريكية الصهيونية.
وقد انتمت إلى كل برنامج تيارات واتجاهات متنوعة ومختلفة من كل التيارات السابقة مما يؤكد ضرورة ارتباط الجدلية الثلاثية (التراث والتحديث والتحرير) لتحديد الرؤية الصحيحة، ولو أخذنا لبنان نموذجاً نرى:
1- تيار المقاومة وقفت معه قوى: دينية إسلامية "سنية وشيعية ودرزية"، ومسيحية "من كل الطوائف"، وقومية ويسارية اشتراكية وشيوعية وعلمانية " من كل الطوائف "
2-    تيار الأمركة والصهينة وقفت معه أيضاً قوى: دينية إسلامية "سنية وشيعية ودرزية"، ومسيحية "من كل الطوائف"، ويسارية اشتراكية وشيوعية وعلمانية "من كل الطوائف"
ونلاحظ أن القوميين "العرب والسوريين" لم ينضموا إلى التيار الثاني وهناك اصطفافات مختلفة حول البرنامجين في الدول العربية الأخرى.
الوطن العربي متكامل في اقتصادياته ولكن الاستعمار هو الذي جزأ وفتت التكامل. والوحدة هي السبيل إلى استكمال التحرر الاقتصادي. والقومية في أوروبا إنما كانت من أجل ذلك الهدف، بينما غيبته الشيوعية الاقتصادوية.
ويجب التمييز بين النموذجين العربي والأوروبي على صعيد العناصر المكونة للأمة ودولة الأمة، فكينونة الأمم في أوروبا كانت موجودة تاريخياً، وما فعلته البرجوازية هو تشكيل دولة الأمة كما فعل بسمارك في توحيد ألمانيا، وقد تمت لتأمين دائرة تحدد المجال الحيوي لمصالح الطبقة البرجوازية الرأسمالية الواحدة.
فعناصر تكوين الأمة لم تنشأ في أحضان الرأسمالية بعد قضائها على دويلات الإقطاع المغلق، إنما نشأت دولة الأمة لخلق السوق الاقتصادية الواحدة من أجل حفظ مصالحها في مجالها الوطني أمام أطماع البرجوازيات المنافسة.
أما في الوطن العربي فالدعوة إلى قيام الدولة القومية ليس لحماية المصلحة البرجوازية، بل هي لمواجهة المشروع الاستعماري التجزيئي، فالتناقض هو بين تجزيء الأمة لإضعافها وبين وحدتها المرتبطة بقوتها وكينونتها وحقها الطبيعي في الوجود والحياة الحرة. ولذلك ليست هي مختلقة وليست وهماً مثالياً وطوباوياً[36] فالاتحاد الأوروبي يتجه نحو الوحدة الكاملة، لخلق كتلة فاعلة دولياً على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي، على الرغم من عدم توفر المقومات التقليدية لأن روح العصر هي التكتلات الكبيرة، وهذا المفهوم يجب أن يكون دافعاً لدعاة القطرية أو الأنظمة العربية لتكتل نفسها كطبيعة للقرن الواحد والعشرين.
وهنا يجب الفصل بين الأنظمة والمشاعر العروبية/ القومية عند الشعوب العربية، فالعواطف لم تتغير، ولكنها وحدها لا تحل الإشكالية إن لم تتحول إلى فعالية منظمة هادفة على أرض الواقع.
والتاريخ يلعب دوراً خطيراً في تكريس التجزئة، تحت شعارات خصوصيات الشعوب العربية أو إخفاق الفكر القومي أو الخوف من قضية الاضطهاد الديني أو الطائفي أو الإثني[37] فالقومية هي التي تضمن حقوق المواطنة كاملة، ولا يوجد شيء اسمه مواطن من الدرجة الثانية مطلقاً.
لقد اصطدم القوميون مع التيار الديني السلفي المتشدد الذي رأى أن الفكر القومي علماني أحل القومية والاشتراكية مكان الإسلام للقضاء عليه، لذلك نعت القوميين بالكفر والخروج عن الإسلام وتنطبق عليهم أحكام الردة. وادعى التيار بأن مفهوم القومية عودة للجاهلية العصبية التي قضى عليها الإسلام، وثبت بدلاً منها الرابطة ‏الدينية فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.
ولم يفد التيار القومي المعتدل ما قدمه من حجج كافتخاره بالحضارة العربية الإسلامية وبأنها ميراثه الثقافي، وبأنه لم يدع إلى إلغاء الدين بل الفصل بين العبادات والمعاملات فالعبادات قضية خاصة، أما المعاملات/ التشريعات المدنية فلم تعد تصلح كما هي، وفيها اختلافات عديدة بين التيارات الدينية نفسها حول ما يصلح وما لا يصلح، ولا توجد رؤية واحدة حول الاجتهاد والتأويل، وما يقوله السلفيون المتشددون إنما هو يمثل وجهة نظرهم التي ترى أنهم هم وحدهم على صواب وكل ما عداهم مخطئ وكافر.
إن مفهوم السلفية عن الأمة الإسلامية يعني الإيمان بوجود أمة مسيحية وأمة يهودية وأمة بوذية.. وهذا ما لا يقبله العقل كما أنه يحول الصراع العربي الصهيوني إلى صراع ديني وهذا ما تسعى إليه الإمبرياليات. وهل يمكن القول بأمة إسلامية مقابل واقع حقيقي تعيشه شعوب العالم كالأمة البريطانية والأمة الألمانية والأمة الصينية والأمة[i] اليابانية.. وتلك الأمم لم تقم على أساس الدين وإنما قامت على روابط أخرى تجمعها كالأرض واللغة والتاريخ والمصالح والآلام والآمال.
والقومية ليست إحياء للعصبية الجاهلية التي ألغاها الإسلام، فالعصبية القبلية المستندة إلى الدم كانت دولة البدوي العربي وحدودها بين قبائل العرب، وانحيازاً أعمى للقبيلة في الخير والشر ولكل قبيلة رايتها، بينما القومية توحد العرب جميعاً تحت راية واحدة، ولا تستند إلى نقاوة الدم فهذه نظرية عنصرية "نازية، صهيونية" فلا دم نقي للشعوب ولا تقام على أساسه القوميات.
وهي ليست شوفونية ونرجسية ترفع العربي فوق الأمم الأخرى، فما العرب إلا قوم كغيرهم من أقوام العالم، ولا تمييز لقوم على قوم إلا بمقدار القيم التي يحملونها وبالرسالة الإنسانية التي يدعون إليها، لذلك هي مع الحق والعدل وإن كان مع غير العربي. وليس افتخارها بتاريخها وتراثها العربي الإسلامي مطلقاً لأن فيه الجيد وفيه السيئ، ورجال تاريخها فيهم الجيد والأجود وفيهم أيضاً السيئ والأسوأ.
وعلى الرغم من أن القوميين لم يصلوا بعد إلى صياغة برنامج تفصيلي يجمعهم على أرضيته، ولم يقدموا رؤية جديدة وبرامج عمل ملموسة، إلا أن بعض الاتجاهات القومية دعت إلى تقديم برامج جديدة علمية وواقعية لإحياء حركة القومية العربية الاشتراكية الديمقراطية، ولا سيما وقد تصاعدت نبرة دعاة القطرية وبناء الدولة القطرية الواحدة/ القومية القطرية المستقلة عن بقية الأقطار العربية، ووجود عجز مريع في خلق تقارب حقيقي بين الأنظمة العربية المتناقضة التوجه بين البرنامجين.
والدول العربية لها تجاربها في النهوض وحدها، حيث يمكن أن يتحقق نهوض دول قطرية جزئياً من خلال استيراد التكنولوجيا والنهضة العلمية والصناعية. ولكن إن لم يرتبط ذلك بالهدف الإستراتيجي للأمة لتحريرها وتحديثها سيبقى محدوداً، لأن القطر الواحد جزء من أمة متشظية تربطه بها قضايا مصيرية واحدة، ولا يمكنه تجاهلها إلى ما لا نهاية.
لقد دعت بعض الاتجاهات القومية الإسلاميين إلى الخروج من المثالية والبقاء أسرى حلم لن يعود، ووحدة الأمة العربية ستضيع حتماً إن تجاوزنها إلى وحدة الأمة الإسلامية. وبما أن التقارب العربي بات صعباً فكيف سيكون الانتقال إلى ما هو أبعد من القرابة العربية، إلى الأمم الإسلامية فهذه النقلة مستحيلة أكثر. فلا يمكن أن تخلق رابطة حقيقية بين دولة عربية مثل المغرب مع دولة إسلامية مثل أندونيسيا ولا يجمع ما بينهما سوى الدين، في الوقت الذي لم تؤد الروابط القومية إضافة إلى رابطة الدين المشترك بين دولتين عربيتين إسلاميتين متجاورتين إلى الوحدة.
وقد صار معروفاً لماذا أسرع العربي المسلم إلى نجدة المسلم البعيد الأفغاني ضد الكفر السوفييتي "تحت المظلة الأمريكية"، ولم يتجه لنجدة الشعب الفلسطيني ولا اللبناني القريبين وقد كانا يذوقان الأمرين من العدو الصهيوني، ويصرخ أطفالهم وعجائزهم ونساؤهم مستنجدين بالمعتصم والعروبة والإسلام والنخوة والمروءة.
إن العرب المسلمين الأوائل انتقلوا من مخاطبة العربي إلى مخاطبة الأمم، من ‏الخصوصية إلى العمومية. ‏وارتباط المسلم غير العربي بالدين الإسلامي لم يلغ تاريخه القومي، لأن الإسلام لم يلغ القوميات. والدول الإسلامية تبنت الدين كأيديولوجيا ولكنها لم تتبن العروبة وإن تعلمت العربية، والعروبة حافظت على عربيتها ولم تتخل عن ثوبها العربي لصالح الأممية الدينية الإسلامية، وما الشعوبية إلا لعدم استيعاب جدلية تلك الثنائية.
وعبر التاريخ لم تكن هناك أمة إسلامية في العالم الإسلامي، وإنما كانت هناك دولة إسلامية تتألف من مسلمين من قوميات متعددة لم تنصهر في قومية واحدة دينية، كما أنه لم يكن هناك مجتمع إسلامي واحد فهناك عشرات المجتمعات الإسلامية، ولكل مجتمع حياته الخاصة.
ووجود رابطة فكرية دينية ما بين الأحزاب والحركات الإسلامية في العالم الإسلامي على الرغم من اختلاف وجهات النظر فيما بينها، لا يحقق مفهوم الأمة الإسلامية لا من قريب ولا من بعيد.
كما أن اختلاف الدول الإسلامية في المذهب يعيق تلك الوحدة، فهل قبلت الدول الإسلامية غير السنية الانضواء تحت ظل خليفة سني أو العكس؟ وماذا عن الدول ذات الطوائف المتعددة مثل لبنان المؤلف من ثماني عشرة طائفة و سورية من اثنان و خمسين؟
إن القومية تصنع وحدة المجتمع لأنها تجمع كل أبناء الوطن الواحد على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم وأطيافهم السياسية على قدم المساواة ضمن إطار الدولة القومية التي تكفل الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة للجميع. والإمبريالية كانت وما تزال تسعى لتجزئة المجزأ بخلق دويلات في الدولة العربية الواحدة تقوم على أسس دينية أو طائفية أو إثنية. فكيف تتم المواجهة دون الالتفات إلى ما يربط بين أبناء الوطن لا ما يساهم في التفتيت والتجزيء.
والروابط تبدأ من الأقرب وتتوسع باتجاه البعيد فالأبعد، من الوطن الجزئي "الصغير" وهو الأقرب لخلق الوحدة لأن المقومات المتوفرة تجمع وتوحد، ولا يمكن أن تكون الرابطة مع مسلم في آخر المعمورة أقوى من الرابطة مع ابن البلد والمدينة والوطن وإن كان من دين آخر أو طائفة أخرى أو أيديولوجية مخالفة.
والرابطة القائمة على مقومات بديهية هي نفسها توحد وتجمع بين أبناء الوطن الكبير "الوطن العربي"، بينما تبدأ تتلاشى تلك الروابط مع الأبعد ولا تبقى سوى المشاعر الدينية والإنسانية، فهل يتم القفز إلى الأبعد مباشرة وتُغيّب صلات القريب والأقرب، والدول العربية هي دول إسلامية فليكن البدء بالعمل على وحدة هذه الدول الإسلامية/ العربية القريبة أولاً.
وهنا يمكن دراسة وتحليل الكتل العربية لبدء نسج خطوات على طريق الوحدة بينها:
1- كتلة بلاد الشام ومعها العراق.
2- كتلة الجزيرة العربية.
3-    كتلة وادي النيل مصر والسودان والصومال وأريتيريا
4- كتلة المغرب العربي الممتدة من ليبيا إلى موريتانيا.
وفي الوقت نفسه يتم العمل على خلق الوحدة الوطنية في كل قطر، ثم العمل على وحدة كل كتلة أو الاتحاد الفيدرالي بينها، وإذا ما تحقق هذا الأمر في الكتلة الواحدة، يتم الانتقال إلى الاتحاد الفيدرالي بين كتلة وأخرى وهكذا، أي الانتقال التدريجي باتجاه الوحدة التامة حتى تتحقق طبيعياً وإن طال الزمن.
كما يمكن تحقيق نوع ما من التضامن والتقارب والتنسيق والتعاون أو السوق الاقتصادية على صعيد الوطن العربي ككل، على غرار ما بدأت به أوروبا كحد أدنى، وهذا يتطلب تفعيل دور الجامعة العربية ومؤسساتها لتكون عاملاً موحداً وليس مكرساً للتجزئة كما أريد لها يوم إنشائها، والوصول إلى خلق صيغة ما لدعم العلاقة والارتباط أكثر فأكثر تبدأ من السوق العربية المشتركة، مع حماية القضية الوطنية/ القومية بتفعيل مكتب المقاطعة العربية والدفاع العربي المشترك، ووقف التيار العربي/ الأمريكي من الانجرار في مستنقع التسوية والاعتراف بالكيان الصهيوني.
نعم إن تحققت وحدة الدائرة الأولى على الصعيد القطري، يمكن الانتقال إلى الدائرة الكبيرة الوطن العربي وعندما تتحقق وحدته "وحدة الأمة العربية"، يمكن الانتقال إلى الدائرة الأكبر الأمم الإسلامية أي الانتقال من الخاص إلى العام فالأعم، ولا يمكن القفز فوق تسلسل الدوائر لأنه ستضيّع الدوائر كلها. وذاك الانتقال إلى الدول الإسلامية لا يكون إلا بعد أن تحل كل دولة منها قضاياها و إشكالياتها، وحتى يتم التفاهم والاتفاق بين الدول الإسلامية على رؤية إسلامية تحديثية واحدة عند الجميع.
إن الواقعية تقول الرابطة القومية هي الأقوى والأساس، وهي ليست حائلاً أمام بعد آخر مع الشعوب والدول الإسلامية تقوم على روابط أخوية وإنسانية لا تمنع من أن يكون الدين أحدها، وهي تؤدي إلى التعاون والتضامن والتنسيق. وهذه الأمور لا تحتاج إلى انتظار طويل.
والإصرار على رفض القومية ومشروع الأمة العربية، إنما هدفه البقاء ضمن إطار الوطن الجزئي دون الالتحام بتتمة أجزاء الوطن، وهو تضليل وهروب إلى الأمام للتنصل من المسؤوليات القومية.
الموقف الأمريكي
إن الغرب الإمبريالي قائم على الجشع والأنانية والعدوانية والنهب والسيطرة والاستغلال والنظرة المتعالية التي تحتقر شعوب العالم في القارات الثلاث الآسيوية والإفريقية وأمريكا اللاتينية، وقد خان الغرب فكره وفلسفته وعلمه. ذاك الغرب له وجهان الأول حضاري متقدم بالعلم والتكنولوجيا والثاني رأسماليته الجشعة التي أوصلته إلى مرحلة الإمبريالية المتوحشة، اللاهثة وراء مصادر الطاقة والمواد الأولية، والأسواق لتصريف منتجاتها، وجعل العالم غير الغربي مزرعة تابعة لها تدور في فلكها اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
لا بد ضمن الرؤية التحديثية أن يكون لنا موقف من الغرب الإمبريالي ولا سيما أمريكا عدوة الشعوب في العالم، إن استفراد وهيمنة الإمبريالية الأمريكية الصهيونية كقطب أوحد في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والنظام الشيوعي عام 1991مكنها من قيادة العولمة السياسية والإعلامية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية... وجاء تفجير برجي مركز التجارة العالمي في سبتمبر عام 2001 المغلف بالغموض، ضمن سياق الرؤية الأحادية في إعادة تقسيم العالم وترتيبه وفق النظام العالمي الجديد.
وقد ازدادت الغطرسة والإرهاب الأمريكي في عهد المحافظين الجدد اليمين الديني الأصولي المسيحي "الإنجيليين الجدد" المتصهين الرجعي في الإدارة الأمريكية والمشبع بخرافات الألفية والمتحالف والمناصر للكيان الصهيوني والدفاع عن كل جرائمه باسم العداء للسامية. وذاك التحالف فتح الأبواب على مصراعيها للعنجهية الصهيونية وجرائمها دون أي قيد.
وغسلت أمريكا كثيراً من الأدمغة بغزوها الثقافي وسيطرتها على الميديا (وسائل الاعلام) والبروبوغندا وروجت بأنها ليست هي والكيان الصهيوني العدوتين للعرب والمسلمين، وإنما الحلف المكون من إيران وسورية والمقاومة الإسلامية "حزب الله وحماس والجهاد.." وكرر ذلك أتباعها وساروا كالأغنام وراءها.
لقد اختلقت أمريكا الأكاذيب لتبرر لنفسها جرائمها ضد الإنسانية، ووظفت العالم الغربي من "جماعة محور الخير" كما سمته، وجيشته لمحاربة الإرهاب باسم الأمم المتحدة بادئة بأفغانستان في أكتوبر عام 2001 لتحقيق المشروع، ثم انتقلت إلى العراق عام 2003 تحت ذريعة أكاذيب بدأت بحجة برنامج العراق النووي ثم أسلحة الدمار الشامل ثم الإرهاب العراقي ودعمه للحركات الإرهابية. إضافة إلى التضييق على السودان وسورية وإيران والمقاومة الإسلامية الثورية من "جماعة محور الشر" كما سمته، والتهديد المستمر بالعقاب والضربات الاستباقية، والعمل على تجزيء المجزأ وخلق الفتن الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية. وجاء عدوان جويلية عام 2006 على حزب الله ضمن تلك الرؤية في إقامة " الشرق الأوسط" الجديد/ الكبير.
واختلاق شعار محاربة الإرهاب الإسلامي "السياسي" هدفه فتح الآفاق لأمريكا لتمارس شراستها وعداءها للعرب وللمسلمين وقضاياهم العادلة والإنسانية. لذلك وضعت أمريكا كل من يقف في وجه مشاريعها أو ينتقدها في خانة الإرهاب، وذاك يعني أن كل من يقف في وجه مصالحها ومصالح الصهيونية، ويقول لا للاحتلال والاستغلال والنهب والهيمنة والسيطرة... هو إرهابي في القاموس الأمريكي.
وتهرب أمريكا من تعريف الإرهاب والفرق بينه وبين المقاومة المشروعة لاستعادة الحقوق، هدفه تغطية ممارستها هي للإرهاب ودعم الظلم في هذا العالم الذي يرتكب ضد الشعوب المقهورة.
فما إطلاق تسمية الإرهاب على كل الحركات التي تقاوم بالسلاح سواء أكانت من التيار الديني أم غيره، إلا خزعبلات سياسية، وقد كشف فيلتمان سفير أمريكا السابق في لبنان (والذي كان يقود سياسة حكومة فؤاد السنيورة وتحالف جماعة فيفري أمام الكونغرس الأمريكي أنهم دفعوا 500 مليون دولار لتشويه سمعة حزب الله في لبنان.
إن أمريكا والكيان الصهيوني هما رمز الإرهاب وكذلك الدول الغربية التي تشاركهما في إرهابهما. بينما الحركات التي تقاوم وتدافع عن أوطانها هي مقاومة وطنية شريفة، ومن حق الشعوب المقاومة حتى تنال الحرية والاستقلال.
وحقيقة الإمبريالية قديماً وحديثاً هي الشركات والمؤسسات الاحتكارية العملاقة في سعيها للسيطرة والهيمنة ونهب الثروات وعلى رأسها النفط، وتسويق بضائعها، وهي لا تتورع عن إشعال الحروب لبيع الأسلحة.
وعلى الرغم من وضوح كل شيء دخل كثير من العرب والمسلمين في الدائرة التي رسمتها لهم الإمبريالية.
العنصرية الغربية على الصعيدين الفكري والأيديولوجي
إن المساهمات الفكرية لبعض المفكرين العنصريين الغربيين الذين يدورون في فلك الإمبريالية هي من طبيعة إفرازات الإمبريالية على الصعيد الفكري والأيديولوجي. وقد نظّر أولئك للعداء ولمشروعية الهجوم الشرس على العرب والمسلمين، والادعاء بأن ظاهرة الإرهاب هي من بنية الدين الإسلامي.
كما أن هناك كثيراً من المفكرين الإسلاميين رأى أن الحروب المعاصرة هي امتداد للحروب الصليبية القديمة، فالغرب لم يغير فكرته عن العرب والمسلمين، وعداوته قديمة منذ فتح الأندلس، وقد عبر عن حقده وعداوته للمسلمين في الحروب الصليبية، التي عادت ثانية مع مجيء الاستعمار الغربي وإقامة الكيان "الإسرائيلي".. ويضربون أمثلة على ذلك مثل غطرسة الجنرال غورو أمام قبر صلاح الدين، وكلمة ألنبي بعد دخوله القدس (الآن انتهت الحروب الصليبية...)
وليس كتاب صموئيل هنتنغتون عن (صراع الحضارات) الذي نشره عام 1996، إلا انعكاساً للرؤية الإمبريالية لطبيعة الصراع في العالم بعد زوال المنظومة الاشتراكية. فهنتنغتون يرى بأن الصراع في العالم صار صراع حضارات بدلاً من صراع الأيديولوجيات الذي كان سائداً قبل انهيار المنظومة الاشتراكية، والصراع الآن هو صراع الغرب ضد الشرق وفي الشرق حضارتان الإسلامية والصينية/ الكونفوشوسية، والخطر الإسلامي هو الأول.
أما كتاب هنتنغتون الآخر (من نحن؟ التحديات التي تواجه الهوية الأمريكية) الذي نشره عام 2004، فقد اختلق فيه أدلجة العداء للآخر ليحمي الهوية الأمريكية.
فهو يذكر بأن العداء للآخر يلعب دوراً أساسياً في تشكيل هوية أي جماعة، والحروب التي خاضتها أوروبا في العصور الوسطى كانت ضرورية لتشكيل هوية الدول الأوروبية المختلفة، والتي أدت في النهاية إلى تشكل الدول القومية.
والهوية الأمريكية كما يرى قائمة على: العرق الأبيض والإثنية الإنجليزية والدين المسيحي البروتسانتي والثقافة الإنجليزية البروتستانتية، وقد استمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر. ثم بدأت تضعف ولا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين نتيجة عوامل متعددة، ويهمنا منها قوله بأن عدم تبلور عدو جديد للولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، قد ساهم في ضعف التفاف الأمريكيين حول هويتهم الوطنية في أواخر القرن العشرين.
ويذكر بأن الخطورة على الهوية جاءت بعد تفجيرات سبتمبر 2001، أي الخطر من الأصولية الإسلامية والكراهية لأمريكا دولة وشعباً وديناً وحضارة. والحل الذي يراه لإنقاذ الهوية الأمريكية يكمن في قضيتين:
1- رفض العلمنة وضرورة عودة الأمريكيين للديانة المسيحية وزيادة دورها في الحياة العامة الأمريكية (اليقظة الدينية) (الدين أصبح العنصر الأساسي في السياسة الأمريكية)
2- دور الإسلام كعدو أساسي جديد لأمريكا.
وقد توقع حروباً قادمة ضد الإسلاميين ليعزز الالتفاف حول الهوية الأمريكية.
لقد استمرت الحملة المعادية للإسلام والمسلمين في تصاعدها عبر الإعلام والسينما والكتب والصحافة المعادية للإسلام.. إلى أن وصلت إلى رسوم الكاريكاتير الدانمركية، ثم محاضرة البابا بنيدكتوس السادس عشر في سبتمبر 2006 التي تحدث من خلالها عن موضوع العلاقة بين العقل والعنف في الإسلام والمسيحية...
وفي الحقيقة لا يوجد صراع بين الحضارات ولا حوار، وجوهر الأمر جشع الإمبرياليات وطمعها في خيرات العالم العربي والإسلامي لا غير، فهي حرب طبقية حرب الأغنياء اللصوص ضد الفقراء.. وكل ما عدا ذلك مجرد أدلجة.
فأطماع الإمبريالية الأمريكية اختلقت مرض الخوف من عدو محتمل وروجته لتبرر تحركاتها الاستباقية العدوانية، وقد بدأت ذلك خلال الحرب الباردة عقب الحرب الأوروبية الثانية بالحديث عن خطر الشيوعية، لأن الشيوعية كانت عقبة في وجه امتداد سيطرتها ونهبها، فادعت الخوف من ذاك الخطر وكان ريغن يطلق على الاتحاد السوفييتي تسمية إمبراطورية الشر. وفي الوقت نفسه كانت الدعاية الأمريكية تروج مفاهيم حماية حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية كوسيلة من وسائل الحرب الباردة ضد الشيوعيين.
وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتفرد الإمبريالية الأمريكية، تحولت ذريعتها إلى خطر الأصولية الإسلامية، لأن هدفها القديم الجديد نهب الثروات وعلى رأسها النفط الهائل في العالم العربي والإسلامي، إضافة إلى أهداف أخرى إستراتيجية باتت معروفة للجميع.
ومن جانب آخر تخدم فكرةُ خلق عدو وهمي وخارق، إبراز عظمة أمريكا التي يتآمر الجميع عليها حسداً وغيرة، وبقدر ما تضخم عدوها الوهمي بقدر ما ترفع شأنها في مواجهته، والبطل الأمريكي كما يظهر في أفلامها هو القوي والمنقذ والمخلص وداعية الخير ومحقق العدالة.
وفي الوقت نفسه تسوق الرأسماليةُ الأمريكية بيع السلاح والمعدات الحربية للدول للدفاع عن نفسها من خطر احتمال مباغتة ذلك العدو لها، وكذلك تبيع الأجهزة الإلكترونية المعقدة لتأمين الحماية والتجسس والإنذار المبكر.
وإضافة إلى تلك الصورة هناك قضية جوهرية في تحديد العلاقة بين العرب والمسلمين مع الغرب (أمريكا ضمنه) فما زالت نظرة أمريكا والغرب متغطرسة ومتعالية إلى الشرق العربي والمسلم ولم تتغير حتى الآن.
إن تلك الرؤية تفسر الموقف الأمريكي والغربي الغوغائي واللامنطقي تجاه العرب والمسلمين وتجاه برنامج إيران النووي السلمي، فهو لا يعبر عن ازدواجية المعايير فحسب، فهذه القضية محسومة في العقل الغربي في تعامله المتعالي مع الشرق فلا يمكن أن يوازي نفسه مع أية دولة عربية أو إسلامية بالحقوق التي يجيزها لنفسه وللكيان الصهيوني لأنه جزء من الغرب، وإنما يكمن في رفض النقد وقيام أية قوة عربية أو إسلامية تقول لا لهيمنة الغرب وأمريكا والصهيونية، وتهدد مصالحهم في الاعتداء والنهب والسرقة والتدخل في شؤون الآخرين.
تلك المواقف الغربية على الصعيدين الفكري والسياسي أشعرت العربي والمسلم بأنهما مستهدفان وبأنهما ضحية التآمر والعدوان، وخلقت ردة فعل عند المسلمين عموماً للتمسك بالدين والتراث والحضارة الإسلامية للدفاع عن أنفسهم، وللحفاظ على توازن الذات أمام الإذلال والتعالي والتحطيم ونظرة السيد إلى العبد... وقد وجد المسلم عزاءه في الدين وفي استعادة ذاك الماضي يوم أهان هارون الرشيد إمبراطور الروم نقفور، ويوم لبّى المعتصم من استصرخته، ويوم انتصر صلاح الدين على الصليبيين، وأيام انتصارات الظاهر بيبرس على المغول وبقايا الصليبيين.
ومن جانب آخر هناك بعض المغرضين العرب من اليمين واليسار الذين استغلوا مقولات الحرية والديمقراطية والتحديث للاستقواء بأمريكا لتكرر تجربة العراق في أماكن أخرى من العالم العربي، مع أن ما فعلته أمريكا في العراق تحت الشعار المزيف والكاذب (الفوضى الخلاقة) من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان. هو الخراب والتدمير وتجزيء العراق وقتل مئات الآلاف وتهجير الملايين وإشعال نيران الطائفية والإثنية والعرقية، ونهب خيرات العراق والقوى التي تتعاون مع أمريكا وتراهن أمريكا عليها، ما هي إلا مجموعة من المتآمرين والعملاء الفاسدين المنتفعين لا أكثر.
وإذا كان هناك إيمان حقيقي بأن أمريكا منبع الشر وأصل المشكلات التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي وشعوب الأرض المقهورة، وبأن ‏الكيان الصهيوني قاعدة عسكرية تم زرعها لتكون عائقاً أمام النهوض العربي ومنع وحدته ‏وتحديثه ليبقى مستنزفاً ومشلول القدرات، وهمه محصور في الدفاع عن نفسه ورد الاعتداءات لا غير فكيف ‏يمكن قبول الدخول في دهليز الإمبريالية، وقبول قاعدته الصهيونية ككيان شرعي والتنازل عن الحق ‏العربي والفلسطيني؟
وكذلك الأمر يقال عن ‏الخطاب البراق للمنظمات المدنية وحقوق الإنسان والديمقراطية التي يمولها الغرب ‏وأمريكا، والتي لا تنتقد أمريكا وجرائمها.
فلا معنى لتلك الرؤية في تحديث الفكر ‏والواقع، لأن ربط النهوض والتحديث بالتحرر واقتلاع القاعدة الاستعمارية من جذورها ‏وإعادة بناء وحدة الأمة المجزأة، جدلية لا تتجزأ.
التيار الديني الثوري
لقد رأت الحركات الإسلامية الثورية أن المخرج من المستنقع العربي يكمن في العودة ‏إلى الإسلام لحل ما عجزت عنه الأنظمة العربية الرسمية والثورة العربية، ‏والأيديولوجيات الشرقية والغربية. ‏
وقد ولدت تلك الحركات بين الجماهير وعاشت أوجاعها وأحزانها وجوعها وقهرها، ‏ولمست تطلعها للحرية وعشقها للمقاومة والتضحية، فكانت تعبيراً صادقاً عن آلام وآمال ‏الجماهير الفقيرة الثائرة.‏
وتحليل الحركات الإسلامية للكيان الصهيوني وارتباطه بالإمبريالية الأمريكية والغرب، لا ‏يختلف عن تحليل اليسار أيام نقائه، وهناك في أدبيات تلك الحركات أحاديث عن ‏رفض الإقطاع وشبه الإقطاع والباشاوات والبكوات، وأحاديث عن العدالة الاجتماعية ورفض ‏الاستغلال والنهب والفساد والامتيازات. ‏
وقد التقت التيار القومي حول أن المشروع الصهيوني هو نقيض للمشروع العربي النهضوي ‏والوحدة العربية، وهو عدو للأمة العربية والإسلامية. ‏وبقاء الكيان الصهيوني يعني استمرار التجزئة والتبعية والتخلف، فهو العائق الأكبر أمام النهضة الحقيقية ووحدة الأمة العربية، ولا بد من إزالته فهو ‏سرطان خبيث وجسم غريب. وبناء على ذلك لا يحق لأحد مهما كانت صفته سواء أكان فلسطينياً أم غير فلسطيني، أن يتنازل ‏عن ذرة تراب من أرض فلسطين للصهاينة ويجب تحريرها كلها من النهر إلى البحر. وللتيار الديني الثوري إضافة أخرى هنا وهي رؤيته الشرعية بأنها أرض وقف ‏إسلامية ففلسطين ملك للمسلمين.‏
وهي لا تقف عند عدم الاعتراف بالكيان فقط، بل لا تعترف بقرارات الأمم المتحدة الجائرة لأنها قرارات الدول الأوروبية الاستعمارية والإمبريالية الأمريكية.
ومنهج هذا التيار الديني الثوري يتجلى في النضال والتحرير والحياة الكريمة، والمصداقية في الربط بين النظرية والممارسة، بين الفكرة وتحقيقها. وهو ما افتقرت إليه معظم التيارات والاتجاهات الدينية الأخرى وغير الدينية، وأغرقت نفسها خطاباً وممارسة بعيداً عن أماني الشعب وطموحاته وحقوقه، فأضاعت المفاصل الرئيسية في النهوض، وتهاونت في الصراع الحقيقي، وتصالح بعضها مع أعداء الأمة بحجة النهوض والتحديث والتطوير، والاستسلام والرضوخ لأحادية القطبية الأمريكية.
لقد تحول مشروع الخلاص إلى الحركات الجماهيرية والقيادات الشعبية، حيث سلمت الجماهير الشعبية المسحوقة والفقيرة، قيادةَ الثورة للذين لمسوا منها المصداقية والإخلاص والعودة إلى الثوابت والالتزام بثقافة المقاومة، وأعطت الأمل الذي يدغدغ مشاعر الشعب العربي بل والإسلامي في تحرير فلسطين.
والمعطيات التي حدثت على الأرض عقب انتصار جويلية عام 2006، وما حدث في غزة والعراق، تشير إلى منعطف جديد في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، إذا ما ترسخ سيؤدي إلى انهيار المشروع الإمبريالي الصهيوني، وسيكون بدء ولادة المشروع النهضوي العربي، وهو عكس ما كانت تحلم بها الإمبريالية الأمريكية.
وما حققه هذا التيار يبين بأن الدين حيادي يمكن أن يكون بيد المتدين أداة للوطنية ويمكن أن يكون بيد اللا وطني أداة للخيانة. كما يمكن أن يكون الدين بيد العاقل والمتنور أداة للتطور والتحديث، ويمكن أن يكون بيد المتخلف أداة رجعية لتكريس الواقع والوقوف بصلابة أمام أي تطور لصالح الشعب. وليس صحيحاً تحميل الدين المسؤولية عن الواقع المتخلف، و د. نصر حامد أبو زيد رأى بأن الأزمة ليست في الدين، بل في المجتمع والثقافة والفهم.
إن مرحلة التحرر الوطني تتطلب حشد كل الإمكانيات والاتجاهات الوطنية على تنوع أفكارها ومبادئها في خندق المقاومة. ويجب تأمين الدعم والحماية لتيار المقاومة الإسلامية الثورية ووضع كل الإمكانيات المطلوبة بين يديها حتى تحقق مشروع تحرير الأرض. ولكن المقاومة الإسلامية وحدها لن تتمكن من إنجاز بقية أنواع التحرير ولا النهضة الحقيقية على مستوى الدولة والشعب ولا التحديث المطلوب، مما يعني ضرورة أن تقبل البحث عن القواسم المشتركة مع الآخرين.
التحديث والمعاصرة
هناك فرق بين التحديث والمعاصرة، فالمعاصرة في تقدم مستمر، والعرب دخلوا المعاصرة وبشكل نسبي، والجميع في طريقهم إليها وهذه سنة الحياة الطبيعية في التطور، حتى المتمسك بالتخلف والظلامية صار معاصراً؛ فهو يركب السيارة والطائرة ويستخدم الكمبيوتر والإنترنت، ويمتلئ بيته بكل الآلات الحديثة، ويحمل شهادات في الهندسة والطب والتكنولوجيا.. يقول د. فؤاد زكريا بأننا كلنا نعيش المعاصرة حتى العظم، وفي أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا الحديثة، حتى المتخلفين والرجعيين. وهي تلعب دوراً ما في التحديث ولكنها ليست هي التحديث[38]
فالحياة المعاشة معاصرة وبحسب الوضع الاقتصادي؛ ففي دول البترول هناك تقدم شكلي كبير في الشوارع والأبنية والحدائق والمكاتب والبيوت والكماليات والرفاهية.. وبعضها وصل إلى مراحل تطور شكلية هائلة وتشيع فيها بعض التكنولوجيات قبل أن تشيع في الغرب. وكل ذاك تقدم ونهوض شكلي يتم ضمن التبعية للإمبريالية، ولم يصل إلى بناء الدولة الحديثة والإبداع ومنهجية العقل ‏العلمي والصناعة.. ولم يرتبط بمشروع بناء الأمة العربية، وبناء الإنسان العربي المالك لحريته، حرية الفكر والتعبير عنه في المنهج والممارسة، يقول د. محمد أركون: (أحب أن أميز بين نوعين من الحداثة: الحداثة المادية/ والحداثة العقلية أو الفكرية، فالحداثة المادية متوافرة في مجتمعات إسلامية عديدة، خصوصاً الغنية منها، ولكن الحداثة العقلية هي التي تنقصنا بشكل موجع. يمكن لمجتمع إسلامي غني أن يستورد كل أنواع التكنولوجيا والتجهيزات المخبرية والطبية وأجهزة الكومبيوتر والمعلوماتية. ومع ذلك فلا يمكن أن نعتبره حديثاً، لماذا؟ لأن تحديث العقليات لم يتم، أو لم يصب إلا نخبة أقلية من المثقفين[39]).
لذلك تلك النهضة هي على السطح وهي وليدة سوق استيراد التكنولوجيا الغربية والاستثمارات ورجال الأعمال..
إن كثيراً من المعاصرين لم يتجاوزوا عقلية القرون الوسطى حيث ما زالت تسود مفاهيم الإقطاع والمجتمع الزراعي وقيمه وعقليته العشائرية والعائلات الكبيرة، كما تسود الأفكار الرجعية البالية والخرافات وتفاهات الأمور.. فالشكل المتطور لن ينهي إشكالية التخلف، ولن يصنع الفكر الحداثي ولن يصنع التحديث الحقيقي القائم على المنهج العلمي واستيعاب روح التطور التكنولوجي الناتج عن تطور بنية الفكر نفسها.
ونحن نوافق قول المفكر د. زكي نجيب محمود: (لولا علم الغرب وعلماؤه، لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها، فإذا هي حياة لا تختلف كثيراً عن حياة الإنسان البدائي في بعض مراحلها[40]) ويتساءل د. عبد الله العروي: (هل استوطن العلم الحديث في البلاد العربية كما استوطن في اليابان أم لا؟)[41]  ويذكر مقاييس تغلغل العلم التجريبي: عدد المتخرجين، براءات الاختراع، المساهمات الإبداعية..
والجواب بالطبع لا، لم يستوطن، فمعظم الأكاديميين العائدين من الغرب ما هم إلا نسخ عن الكتب النظرية في العلوم ينتهي بهم الأمر كمدرسين في الجامعات، أو العمل في غير اختصاصهم وهو نوع من البطالة المقنعة!
إن الغرب يصدر السلع والتكنولوجيا كما يصدر العلوم والنظريات الفلسفية والمذاهب والأيديولوجيات والفن.. وهنا تستطيع البشرية كلها امتلاك العلوم بالمال، ولا سيما بعد أن ساهمت ثورة الاتصالات في تقريب المنتج من المستهلك.
ولكن حاجة النهوض لا تكمن فقط في جلب العلوم، وإنما في العلوم التطبيقية/ التكنولوجيا، في الصناعة الثقيلة، في الاستغناء عن صناعات الغرب ومنتجاته، في الاكتفاء الذاتي، في رجحان كفة التصدير على الاستيراد، في زيادة الدخل القومي ورفاهية المجتمع..
لذلك نرى في الدول التابعة تروج الصناعات المحلية الخفيفة الاستهلاكية، الغذائية، التحويلية، التجميعية، الترفيهية.. التي لا تؤدي إلى خلق صناعة حقيقية تنهض باقتصاد البلاد.
الغرب لا يريد العرب أن يكونوا دولة علمية قوية قادرة على التطور والنهوض، ولا يريد أيضاً انتشار التفكير العلمي المنهجي في الوطن العربي، فمصلحته أن تبقى الدول العربية دولاً متخلفة ومجزأة ضعيفة تعتمد عليه، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير وجعل الأنظمة العربية التابعة له تبني مجتمعاتها على المعاصرة وليس التحديث، وتلك الأنظمة لا تريد أكثر من ذلك.
الدولة وطبيعة النظام
لقد عبرت الجماهير الشعبية في كثير من المناسبات والقوى الوطنية والأفكار النيرة عن تطلعاتها إلى أن يكون نظام الدولة جمهورياً دستورياً ديمقراطياً، يحقق مبدأ المواطنة لكل الشعب. والسلطات الثلاث مستقلة عن بعضها، وسيادة القانون تطبق على الجميع.
إن السلطة التشريعية في ذاك الإطار المعبر عن الأكثرية مهمتها صياغة الدستور بناء على النقاط المشتركة، وهو يتضمن الثوابت الوطنية والقومية، وعدّ الدولة القطرية جزءاً من الأمة العربية.
ويجب أن يكون النظام قائماً على العلم والعقل والأفكار النبيلة التي تحقق العدالة والحياة الحرة والكريمة لابن الوطن أياً كان دينه أو طائفته أو فكره أو إثنيته لا فرق بين إنسان وآخر ولا رجل وامرأة فالكل سواسية.
والدولة مسؤولة عن حرية الجميع وأمنهم وتحريرهم من عقدة الخوف والاضطهاد والقمع التي زرعت في أعماقهم من رجل الدولة والأمن والعسكر.
مسؤولة عن حماية الحياة الخاصة للإنسان لأنها مقدسة لا يحق لأحد التدخل فيها ما دامت لا تعتدي على حقوق وحرية الآخرين.
وأيضاً حماية الأسرة وصيانتها لأنها نواة المجتمع، والمرأة مساوية تماماً للرجل في الحقوق والواجبات.
والدولة مسؤولة عن تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات والعمل على تأمين متطلبات الحياة لكل مواطن: (السكن والتعلم والعمل والدخل الجيد الذي يؤمن الحياة الجيدة بل والمرفهة، والخدمات المتنوعة كالماء والكهرباء، وضمانات المرض والعجز والشيخوخة..).. فلا قيمة للحرية السياسية والديمقراطية إن بقي الإنسان مستلباً ومستغلاً ومستعبداً اقتصادياً، فالاستعباد الاقتصادي سيجلب الاستعباد السياسي حتماً.
لذلك لا بد أن يتضمن الدستور منع الاستغلال بكل أشكاله وعدم استئثار جزء من الأفراد بالثروة الوطنية.
كما تلعب الدولة دورها في برمجة الاقتصاد والخطط التنموية وسيطرتها على القطاعات العامة "الكهرباء والماء والثروات الباطنية، والصناعات الكبيرة.."، وليس المقصود بالقطاع العام رأسمالية الدولة وإنما أن يكون للشعب كله لا يحتكره أحد، والعاملون فيه هم المسؤولون عنه[42] وإلى جانب القطاع العام هناك القطاع الخاص ذو التوجهات الوطنية والإنسانية. ولكن القطاع الخاص بأنواعه المتعددة الصناعية والزراعية والتجارية والحرفية والمهنية و الخدماتية والسياحية.. يحتاج إلى مراقبة ومحاسبة الدولة والمنظمات الجماهيرية لضمان عدم الجشع والغش والاستغلال والنهب والثراء غير الطبيعي، لأن المواطن هو الذي يدفع الثمن. وهنا نؤكد على ضرورة ضمان حقوق العمال وعدم استغلالهم: أجورهم، التأمين الصحي والاجتماعي، ساعات العمل والعطل.. لأن الجشع البشري لا حدود له (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب...)
والمراقبة مهمة أيضاً لضمان سلامة الإنتاج الصناعي والغذائي وجودتهما، وكذلك مراقبة تكاليف إنتاج السلعة والربح، والضرائب التصاعدية، ومتابعة السوق بدءاً من سعر السلعة في مواقع إنتاجها "داخلياً وخارجياً" وأجور النقل وتحديد الأرباح وسعر البيع للمستهلك.
ولا يكفي القول بضبط القطاع الخاص والتجارة ومراقبتهما الدائمة، وإنما يتطلب الأمر اختيار المشرف على الرقابة أن يكون حقاً شريفاً عفيفاً، ونزاهته معروفة من خلال تاريخه وممارساته، وهذا يعني اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب في كل قطاعات الحياة.
وليس القطاع الخاص هو وحده المقابل للقطاع العام، حيث يمكن وجود قطاع مشترك إذا اقتضت الضرورة.
إن المواطن إذا ما شعر من خلال الممارسة بأن الدولة من أجله وصارت حقاً ملجأه والحاضن له، فإنه سرعان ما ينتمي إليها باعتزاز وافتخار ويدافع عنها ويتخلى عن الاحتماء بعائلته أو قبيلته أو عشيرته أو طائفته أو مذهبه أو حزبه.. لأن أولئك ملجأه ما دامت الدولة غائبة عن أداء دورها.
الديمقراطية
لا يمكن أن يحدث التقدم والتطور والتحديث بدون أن يحيا الشعب حياة ديمقراطية يحكم نفسه بنفسه وباختياره الحر والنزيه. والديمقراطية تتقبل كل الحركات والأيديولوجيات ودون أن تغيب أحداً وبشرط أن ترتبط بالشعب وتعبر عن أمانيه في الحرية والكرامة..
ونلاحظ أن الدستور في الغرب والقوانين تحمي الديموقراطية الليبرالية والنظام الرأسمالي، وجميع المتنافسين في الانتخابات التشريعية يعملون تحت ذاك السقف، ولا يؤثر صعود فريق أو هبوط آخر في الانتخابات على طبيعة النظام لأنه خط أحمر. ولكن تحت ذاك السقف لا تسود الديموقراطية عملياً، وإنما ديكتاتورية المالكين للثروة والممولين للنفقات.
والفوز في الانتخابات يمكن أن يكون عبر شراء الأصوات أو الخداع أو القوة، وهناك أساليب متعددة للوصول إلى السلطة، والذي يصل إلى السلطة قد يفرض ديكتاتوريته وتوجهاته. فالوصول إلى السلطة لا يعني أن الديموقراطية ستسود حتماً، ومثالها الصارخ بوش وفرض إرادته، وأيضاً ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968. والسادات تحت شعار الديموقراطية قلب الوضع مئة وثمانين درجة، وكذلك عرفات.. وكلهم لم يعر المعارضة اهتماماً ولم يرجع إلى الشعب ولم يستفت أحداً.
فاللعبة الديمقراطية خطيرة لذلك يجب ضبط الأمور، حتى لا تصير ديكتاتورية أغلبية الطبقة المستفيدة لأنها تشكل خطراً كبيراً على القضية السياسية والوطنية والاقتصادية والاجتماعية.. فالطبقة المالكة للثروة ولوسائل الإنتاج تمتلك القرار السياسي أيضاً، ومالكو وسائل الإنتاج قلة في المجتمع، وهم يستعبدون جماهير الشعب ويصادرون حريته السياسية لأنهم يمتلكون قدرة الدعاية الانتخابية وشراء الأصوات والرشوة بل والتهديد.. لذلك تبقى الديموقراطية الشعبية أسلم، مع تحديث الرؤية العربية لها.
والديمقراطية تبدأ من القاعدة الشعبية في الانتخابات النزيهة للمجالس المحلية/ البلديات/ القرى/ المدن.. وكذلك المنظمات والمؤسسات والاتحادات والنقابات المدنية المستقلة عن أي وصاية أو تدخل والتي تمثل مختلف أنشطة الشعب الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والمهنية والرياضية والفنية.. وحريتها في التعبير عن الرأي والانتماء عبر وسائل الإعلام الخاصة بها كالصحف.. والحرية هنا هي الحرية الملتزمة والمسؤولة والواعية لحق الشعب كله ولمصلحة الوطن، وليست الحرية الفردية السائبة على حساب الآخرين والوطن.
ثم تأتي الانتخابات البرلمانية النزيهة على المقاعد البرلمانية التي تمثل الشعب كله؛ منظماته الجماهيرية من مؤسسات واتحادات وأحزاب وحركات تشمل كل طبقات وشرائح وفئات الشعب من الكتاب والتقنيين والمهنيين والمثقفين والطلاب والصناعيين والفلاحين والعمال وأصحاب الأعمال الحرة.. ومن كلا الجنسين على قدم المساواة، لضمان أفضل طريقة لتمثيل معظم أبناء الشعب. وكذلك توفير الدعاية الانتخابية للجميع بطرق متكافئة ومتوازنة.
وأي تعديل في الدستور بعد الاتفاق عليه، لا يتم عبر ديمقراطية الأغلبية ولا التوافقية التي ترضي جميع الأحزاب والاتجاهات الصغيرة والكبيرة ودون استثناء أحد أو تهميشه، وإنما يتطلب أيضاً الاستفتاء الشعبي عليه.
والنقد ضرورة حيوية لا غنى عنها بما فيها نقد السلطة والبرامج.. وبديهي ألا يكون معادياً للوطن والاستقلال، وأهداف الأمة في التحرر والنهوض والوحدة المرتبطة بالمشروع القومي النهضوي. فهناك قيم منصوص عليها في الدستور يلتزم بها الجميع وهي خط أحمر.
الإيمان والدين
لا يمكن تجاهل وتغييب البعد الروحي في حياة المتدينين، والقفز عنه لن يفيد في التقدم شيئاً. لذلك تجب مواجهة كل القضايا الخلافية والتفاهم حولها لضمان سلامة المشروع النهضوي.
وإذا نظرنا إلى الإسلام بصيغته العامة نجد أنه كون الحضارة العربية الإسلامية، وتغلغل في ‏اللغة والثقافة والكتب والبرامج والندوات والمؤتمرات، وله حضوره القوي المتجلي في إقامة الشعائر "الآذان والصلوات والخطب"، والمواسم "رمضان والحج"، والعادات والتقاليد والمناسبات الدينية: أعياد، أفراح، وفيات.
واستمرارية الدين عبر التاريخ شكل تكويناً في الوعي واللاوعي عند المتدين وصار يلبي حاجة في قلبه ومشاعره وأحاسيسه، لا يملؤها أي خطاب آخر غيره، لذلك لا يمكن القفز عن ذلك ولا يمكن تغييبه، والمتدين موجود بيننا وليس في ‏كوكب آخر: أهل، أقرباء، جيران، معارف، أصدقاء، زملاء في العمل، الشارع..
والأمر نفسه يقال عن بقية الأفكار والمفاهيم وأصحابها أياً كان دينهم أو مذهبهم أو طائفتهم أو أيديولوجيتهم.. فهم يعيشون بيننا وليس في كوكب آخر.
إن الوطن للجميع، ولكل الأفكار والأيديولوجيات والمفاهيم والأديان والطوائف، والكل يجب أن يساهم في بنائه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي والقانوني.. فهذه مسؤولية الجميع، لذلك التفاهم والتقارب بين أبناء الوطن جميعاً حول الأفكار المشتركة ضرورة تاريخية وليس طرحاً مثالياً، لأنه يمكن تحقيقها وتحقيق الكثير إذا تم التنازل عن الأنا النرجسية، والخروج من قوقعة الذاتية والخصوصية والنظرة الأحادية والمصلحة، والتخلص من عقلية إما تطبيق الكل أو معظمه أو لا، دون اكتراث لوجود الآخرين وفكرهم.
إن مناقشة موضوع الإيمان والدين تشمل قضيتين رئيسيتين:
‏1- الله. ‏
‏2- الدين: ويقسم إلى قسمين: القسم الأول: مفهوم المطلق والعلاقة معه.‏ والقسم الثاني: ‏التشريعات الدنيوية.‏
لا بد من التفريق بين الدين والإيمان بالله/ المطلق/ الفكرة المطلقة/ القوة الخلاقة.. فالإيمان يتعلق بوجود الله، بينما الدين في قسمه الأول يتعلق بمفهوم الدين عن الله/ العقيدة، والعلاقة معه/ العبادات. أما القسم الثاني من الدين فهو وإن ارتبط بالقسم الأول لكنه يتعلق بالعلاقة مع الآخرين أي فقه المعاملات المتعلقة بشؤون الدنيا/ الحياة المادية، حياة المجتمع في قضاياه السياسية والاقتصادية ‏والاجتماعية والحقوقية.. وستأتي مناقشة القسم الثاني عند الحديث عن التيارات الدينية والديمقراطية.
الإيمان بوجود قوة مجهولة الكيفية وراء الكون والحياة والإنسان.. دونما تحديد لصفاتها جامع مشترك لكل الأديان والمذاهب والطوائف، أي جامعة للأكثرية الساحقة. أما تحديد ماهية القوة فهو الدين في قسمه الأول والعلاقة معها، وفيه رؤى مختلفة مما يعني أن ذاك القسم يفرز ويفرق، فقراءة الدين الواحد خلقت فرقاً وطوائف متعددة مختلفة ومتناقضة في كل الأديان. والإشكالية تنشأ إذا غيبت ‏إحدى الرؤى أو كفرت أو استصغرت المخالف في رؤاه ‏وطقوسه.‏
ويمكن القول لا أحد ينفي وجود تلك القوة ولكن هناك اختلاف حول مفهومها، والمتدين يؤمن بعجز العقل الإنساني عن إدراك حقيقتها، مع ملاحظة صعوبة أن يقتنع البعض بالفكرة المطلقة المجردة بينما ‏يتقبلها مجسدة بشكل ما أو بصفات ما، وهذا أحد المفاهيم عنها وهي قضية دينية خاصة بمعتنقها.
والمادي (الماركسي أو الوجودي أو اللا ديني أو الملحد..)، الذي يتحدث ممجداً صنع الطبيعة أو يبدي دهشة من عبقريتها أو يستوقفه جمال أمر ما في الوجود أو قوانينه، إنما هو يتحدث بمنهجية إيمانية. والخلاف في التسميات وفضاء الدلالة[43]
لقد تم الفصل بين الإيمان والدين، لأن الإيمان وحده لا يخلق إشكالية ما دام لا يحدد ماهية أو صفات تفصيلية، ويمكن الوصول إلى مفهوم عام يتفق عليه الجميع تكون فيه تلك القوة الخلاقة مثلاً أعلى لقيم الحق والخير والعدل والجمال والحب والحرية.
ولكل إنسان الحق والحرية في فهم وتصور تلك القوة وعلاقته معها سواء عن طريق الدين أو الأيديولوجيات المختلفة أو رؤيته الشخصية.
والمادي أو الملحد وإن رفض الفكرة، لكنه لن يرفض المنظار القيمي لأنه هو أيضاً يسعى للبحث عن الكمال الإنساني في الحق والخير والعدل.. وهي أهداف قيمية للإنسان والدولة.
لذلك يمكن أن يكون الإيمان ضمن ذاك المفهوم العام في الدستور، وليس المفهوم الخاص الديني.
والدين/ العقيدة والعبادات، قضية خاصة بالمتدين. وبما أن الدين خاص فلا يحدد في الدستور دين للدولة، ولكن تحدد هوية الانتماء في الدستور إلى الثقافة والحضارة العربية الإسلامية العقلانية المنفتحة والتعددية والخالية من السلبيات والشوائب.
إن القضية ليست مجرد شكل كما هو الحال في معظم الدول العربية والإسلامية بل وفي الغرب، فعندما يحدد في الدستور دين للدولة معنى ذلك هناك التزام به ومحاسبة.. ولكن بما أن الدين ولا سيما (العقائد والعبادات) قضية خاصة، فلا مسوغ للتحديد العام، ولا سيما أن تحديد دين للدولة يمكن أن يستغل ويمكن أن يثير حساسية لا مبرر لها، كما أنه لا يوجد مفهوم واحد متفق عليه عند الجميع، ولا يمكن أن يصل المسلمون بكل طوائفهم واتجاهاتهم التحديثية المتعددة إلى رؤية واحدة تحديثية عن الإسلام، لأن هناك قضايا عديدة ترتبط بالفهم وثقافة القارئ ورؤيته للنص أو خلفياته الأيديولوجية أو انتمائه الطائفي أو المذهبي، أو تحرره من كل ذلك.
والعواطف والمجاملات وإرضاء مشاعر الأكثرية لن تحل الإشكالية، بينما التركيز على فكرة المثل الأعلى والأخلاق يثمر حتماً لأن المجتمع يحتاج إلى مثل عليا ‏يسعى لتحقيقها.
وما نريده لوحدة المجتمع بكل أطيافه هو ما يتفق عليه أكثريته، وترك المفاهيم المختلف عليها/ المفرقة لأصحابها، ولا يحق لهم تعميمها وفرضها على الآخرين.
وعندما يكون الدين في قسمه الأول خاصاً، ستحل إشكالية الاختلافات والهيمنة في الدين/ الطائفة/ الملة.. ويحترم كل إنسان عقائد الآخرين ويتعامل معهم بإنسانية وأخوة ولباقة، فتتغير الصورة.
والدستور يضمن حرية الإنسان في الانتماء إلى الدين أو رفضه أو تغييره وهذه النقطة ركز عليها الكثير من المفكرين الإسلاميين حيث (لا إكراه في الدين) وضرورة إلغاء عقوبة ما يسمى المرتد، فلا يحق لأحد أن يتدخل أو يصادر حرية الإنسان في عقيدته وانتماءاته.
والقوانين المستمدة من الدستور تسمح بالنقد الإيجابي العلمي الموضوعي الحيادي المدعوم بالأدلة الملموسة والبراهين العقلية لكل المفاهيم والأفكار دون استثناء بهدف الوصول إلى الحقيقة، لكنها تمنع النقد السلبي والتعصب والشتائم، ولا تفتح المجال إلى اتخاذ الدين أو الطائفة أداة للتحريض ضد ابن الوطن الآخر، ولا تقبل بالاتهامات المتشنجة المتبادلة المبنية على الإيمان أو الكفر أو التحريف، والتي قد تأخذ عند طرف ما طابع الازدراء والسخرية والاستهزاء، أو السب والشتائم والإهانات والإذلال.. وكل هذا يؤدي إلى شحن النفوس وتهيئتها للعنف والقتل، فيشل الوضع تماماً ويعود الجميع للوراء ولا يتقدمون خطوة واحدة، ويدخلون في دوامة لا يدرون كيف تنتهي وأين تنتهي. وهذه القضية قصمت ظهر الأمة العربية عبر تاريخها الطويل ولم تثمر إلا الأحقاد والانشقاقات والحروب، وما زالت المعاناة حتى الآن كما حدث ويحدث في لبنان والعراق ومصر وغيرها.. ولو سادت الروح الإنسانية في النقد الإيجابي، لتغيرت الصورة جذرياً.
وقد قصر كثير من المفكرين الإسلاميين في عدم نقد ما حدث في التاريخ القديم والحديث من انشقاقات ومشاكل وحروب تحت المظلة الدينية أو الطائفية.. وعدم الدعوة الجادة والملزمة بضبط النشاطات الإعلامية العلنية التي فيها تعرض واستفزاز للطرف الآخر.
وبما أن العقائد الدينية والعبادات قضايا ‏خاصة بالمتدين، يبقى المتدين حراً في نقد أو تحديث معتقداته وفقه تعبده.
كما أن الجماعة التي ينتمي إليها المتدين، من حقها ممارسة أفكارها وعقائدها، ولها الحق أيضاً في مزاولة نشاطاتها الاجتماعية والخيرية والثقافية والمدارس والمعاهد والمراكز الطبية والتعاونية وجمع التبرعات.. بالوسائل السلمية دون فرضها على الآخرين ودون أن تستفز تلك الأنشطة المتنوعة منها أية حساسية عند الآخرين أو تزعج أحداً.
ودور الجمعيات الخيرية في مساعدة الفقير والعاجز والمريض يدعم الترابط والتكافل الاجتماعي والتضامن والأخوة الإنسانية، وإن كان ذاك الدور من مهمات الدولة لأنها مسؤولة عن كل مواطنيها.
الأخلاق
المحافظة على حرية العقيدة والدين كقضية خاصة، إضافة إلى أنها تشبع الجانب الروحاني عند المتدين، تساهم في نشر الأخلاق والفضيلة إن التزم المتدين بالأخلاق التي يدعو لها الدين. والدين يزرع الرادع الداخلي/ الوازع، من خلال إرضاء الله أو مبدأ الثواب والعقاب.
إن الأخلاق علاقة مع الآخر، ومنبعها قد يكون الدين أو الوعي الحضاري أو الرقي الإنساني والضمير الحي وهو الأقوى لأن الذي يمتلكهما يلتزم بالأخلاق ويمارسها عن قناعة تامة وهو يفعل الخير لأنه الخير ودون أي مقابل حتى دون التفكير بالثناء والسمعة الطيبة، ويتجنب الشر لأنه شر وليس خوفاً من العقاب أو السمعة السيئة.
وهناك فرق بين أخلاق تتطلبها العلاقة مع الآخرين ولا يحاسب عليها القانون، وبين أخلاق يفرضها النظام مما يعني أن قسماً من الأخلاق من مهمات النظام/ السلطة كالقضاء على الفساد والسرقة والرشاوى..
ولا تستطيع السلطة زرع الرادع الداخلي فهي تفرض الرادع الخارجي بقوة القانون والعقوبة، ولكن يمكن التلاعب والتحايل على القوانين. وهذا هو الفرق بين أخلاق الدولة وأخلاق الدين وأخلاق الرقي الإنساني، ولكن في مجتمع معقد العلاقات وفاقد للوازع الداخلي، تبرز أهمية الوازع الخارجي "القانون/ السلطة"، فله دور في الردع لا يستهان به.
إن الأخلاق مثل عليا جامعة يؤمن بضرورتها الحتمية كل إنسان وجداني وهي ليست خاصة بأمة أو حضارة وليست ملك فكر دون فكر آخر، ويمكن ربطها بفكرة المطلق الحق والخير والعدل، وانعكاس ذلك على ممارسة الفضائل كالصدق والأمانة والإخلاص والالتزام والتواضع ودماثة الخلق في المعاملة واللباقة واحترام الآخر وعدم إيذائه أو شتمه أو تحقيره أو السخرية منه أو الاستهزاء به أو استغابئه.
واحترام الدولة لإنسانية الإنسان هي قيمة أخلاقية وتعني إلى جانب تقديس حريته، تأمين مستلزمات حياته ليؤدي عمله بإخلاص وإبداع، فإن لم تفعل ذلك فالاحتمالات كثيرة منها إهمال عمله نتيجة الإرهاق في أعمال أخرى لدعم أجره القليل الذي لا يكفي تغطية متطلبات الحياة، ومنها ما هو أسوأ فقد تدفع الحاجة إلى انحراف البعض باتجاه الرشوة أو السرقة أو القتل.
والمجتمع العربي يعاني من أزمة أخلاقية حقيقية، وهي على رأس الأمراض الاجتماعية التي ساهمت إلى جانب عوامل أخرى في تفكك المجتمع وانهياره، فقد انتشرت المفاسد والرذائل في المجتمع العربي "الإسلامي/ المسيحي" على الرغم من حض الدين على الابتعاد عن ذلك كله!
ويجب على الجميع الفرد والأسرة والدولة، أن يتعاونوا لتجفيف المستنقع الذي تتسع رقعته وتتعمق بالانهيار والانحطاط بكل أشكاله بما في ذلك الفن الساقط.
والتربية الأخلاقية السليمة تبدأ من البيت ومن نظم التعليم التي يجب أن تدرس مادة الأخلاق وأصول التربية في المدارس ليتعلم الطالب الصدق واللباقة واحترام الآخر والإخلاص في العمل والجدية.. وهذا ينجح إن زرعت الأخلاق في داخل الطفل، أما إذا بقيت خوفاً من الخارج وليست نابعة من داخله فهي ستؤدي إلى النفاق والخداع والتزييف والتملق والكذب.
كما أن هدف التربية السليمة أيضاً تكوين شخصية الطفل المستقلة والعقلانية والواعية والمعتمدة على نفسها، وهذه قيمة كبرى لأن تربية الأطفال أمانة في أعناق الجميع الأسرة والدولة. وهذا يتطلب أن تكون مناهج التعليم مبنية على المناقشة والحوار، وتنمية مواهب الطفل وتشجيعه على التفكير العقلي. لذلك هناك ضرورة لإعادة النظر في أساليب الدراسة ومناهج التعليم القائمة على النظري والحفظ الآلي، وحشو دماغ الطفل بالمعلومات، لأنها لن تؤدي إلى بناء شخصية الطفل ولا العبقرية والإبداع.
الدين والعلم
إن الدين لم يطرح نفسه بأن مهمته علمية يشرح فيها الوجود المادي للكون والبشرية وتقديم النظريات العلمية، فالقرآن الكريم كتاب ديني وليس كتاباً في العلوم.
والتعامل مع العلوم المتعددة يتعلق بالإنسان خلال جدله مع الوجود والآخر.
والمشكلة ليست في النص لأن النص يطرح مفاهيم عامة إرشادية وتوجيهية للمسلم، وقد طرح الوجود للتأمل والاستدلال على وجود الله. والخطأ يكمن في محاولات إسقاط النظريات العلمية على خطاب تأمل الوجود كما فعل د. زغلول النجار وغيره.. وما هو إلا تكرار لما فعله أسلافهم في مرحلة النهوض الأولى كطنطاوي جوهري، وقد وصل بعضهم في طرحه إلى شطحات خيالية كما في كتاب د. رشاد خليفة: عليها تسعة عشر "الإعجاز العددي في القرآن الكريم".
ومنهم من بالغ فادعى بأن أفكار الغرب وعلومه قالها القرآن والمسلمون قبلهم، وهذا الكلام يدين القائل والعقل الإسلامي وليس مفخرة لهما، فأين العقل الإسلامي الذي لم يكتشف ذلك، بينما العقل الغربي استطاع أن يكتشفه؟ ولماذا لم يتحدث أحد التراثيين الإسلاميين عن بعض العلوم قبل معرفتها من الغرب، وكذلك النظريات العلمية التي يراها في القرآن الكريم؟ لِمَ لمْ يدرس الغيورون التراث الإسلامي ليستخرجوا منه العلوم والنظريات قبل أن يكتشفها الآخرون، فتكون سابقة يفتخرون بها، ولكن هل يستطيع أولئك أن يكتشفوا شيئاً جديداً لم يقله العلم الغربي بعد؟
إن تبني فكرة أو نظرية قادمة من الغرب تبقى لحساب الغرب، فإن لفق أحد ما وجودها في التراث فلن يغير من الأمر شيئاً لأن تبنيها كان عن طريق الغرب، فالغرب يكتشف ويبدع، بينما بعض الإسلاميين لشعور النقص لديهم يسقطون ذلك قسراً على النص ظناً منهم بأنه مطابقة سليمة، وبأنه يخدم إعجاز النص ونسبته.
يقول د. هشام شرابي بأن الشعور بالنقص تجاه الغربي ولد الاعتزاز بالتراث والتمثل ‏بحضارتنا وأن الغرب نهض عليها، وهو يرى أن تاريخنا المعاصر منذ عصر ‏النهضة: (حلقات من ردود أفعال متتالية على التحدي الغربي)[44]
إذاً الدين ليس مقابل العلم، وقوانين الوجود والنظريات العلمية تستنتج من قراءة الوجود وليس من قراءة النص القرآني.
إننا لسنا ضد العلم الغربي وفكره إن كان إنسانياً وأخلاقياً فهو ملك البشرية جمعاء، ولكننا ضد الغرب النفعي/ البراغماتي لأنه لا يحمل قيم الإنسان، وقد انقلب باتجاه الاستعمار المتوحش والاستغلال الظالم والنهب والانحطاط اللا أخلاقي وهو ‏‏محكوم عليه بالسقوط..
والمنهجية العلمية والعلم التجريبي لا علاقة لهما من قريب أو بعيد بالدين. والغرب العلمي والعلماني فيه ملايين المتدينين ولم يمنع ذلك من التقدم والإبداع، لأن العلم والفكر العلمي والتجربة العلمية ليس في المعبد وإنما في المخبر.
فإذا أُعطي العلم والتجربة المكانة الأولى، لا يزعزعهما أي شيء. وعندما يقول المتدين بسم الله قبل التجربة كقضية معنوية لتمنحه الثقة والاطمئنان، يعرف تماماً بأنها لن تؤدي إلى نجاح التجربة إن كان هناك خلل تقني، وأيضاً لن تؤدي إلى فشل التجربة إن كانت الأمور التقنية صحيحة.
وقد أثبتت تجربة إيران أن الدين لا علاقة له بمسار تطور الدولة الصناعي والتكنولوجي لأنهما يقومان على العلم والتفكير العلمي.
إن مواجهة الغرب تعني أن يتحرر العرب من التبعية للغرب وخاصة أمريكا، وألا يكونوا رهائن تقنياته وعالة عليه يتحكم في مصيرهم. فالغرب المتطور علمياً وتكنولوجياً هو نفسه الذي يقهر العرب ويسلب إرادتهم ويريدهم عبيداً ‏في آلية اقتصاده. وما يقدمه للأنظمة العربية التابعة هدفه أن تمارس تلك الأنظمة دورها في حماية مصالحه وتدجين شعبها وتوظيفه في تلك ‏الآلية.‏
الغرب لا يقدم للعرب أي شيء مجاناً لأنه ليس بجمعية خيرية، و البراجماتية فلسفته ولا استثناء، وما زالت تسيطر عليه العقلية المتعالية والمتغطرسة ونظرة السيد إلى العبد.
التيارات الدينية والديمقراطية
أدرك كثير من التيارات الدينية ولا سيما المعتدلة والثورية مفهوم العصر وثقافته، فآمنوا بالديمقراطية والتعددية، وقبلوا بالمشاركة على أساس وطني معاد للإمبريالية والصهيونية ومشاريعهما، والقضاء على المفاسد.. وتخلوا عن تطبيق الإسلام في هذه المرحلة. وهذا يعني عملياً أن المعايير التي تفرز الناس ترتبط بالقضية الوطنية/ القومية، والأخلاق كالمصداقية والإخلاص.
وذاك الوضع يغني جدلية التراث والتحديث والتحرير، لأن جميع أبناء الوطن على اختلاف أديانهم وطوائفهم وفرقهم سيتمكنون من المشاركة في الحياة السياسية الملتزمة بالدستور، أما الذين يبتعدون عن الحياة السياسية لعزوفهم عنها بطبيعتهم فهذا شأنهم.
إن المتدين كإنسان يحمل فكراً من أي دين كان أو مذهب أو طائفة، هو ابن المجتمع ولا يصح تهميشه فهو حر الفكر وله أن يعبر عن رأيه بكل أمان وأن ينتقد وهذا حقه، ومن حقه طرح برنامجه المتعلق بشؤون الدنيا، والتصويت عليه كغيره ممن يحمل أفكاراً مغايرة على قدم المساواة.
كما أن المتدين الثوري الذي يضحي بحياته من أجل الوطن ليس قرباناً للموت فقط، فمن حقه المشاركة في بناء الوطن وقيادته، وكذلك الأمر يقال عن كل من شارك في خندق التضحية من أجل الوطن، فشركاء الخندق هم شركاء في بناء الوطن وقيادته، وكذلك كل من وقف مع تيار المقاومة بمصداقية وإخلاص وإن لم يساهم مباشرة في خندق المقاومة. ولكن التضحية في سبيل الوطن لا تعني مطلقاً أن يفرض المضحي شروطه على الآخرين.
لقد حدثت تجارب كشفت عن زيف ادعاء الديمقراطية؛ ففي الوقت الذي طرحت فيه الديمقراطية في بعض الدول العربية، دخلت حركات دينية تلك اللعبة بحسب الشروط الموضوعة التي سمحت لها بالمشاركة دون أن تستغل الوضع أو تغير من سياسة اللعبة الديمقراطية، ولكن ماذا كانت النتيجة؟
بعد أن حصلت تلك الحركات على الأكثرية في انتخابات نزيهة أهلتها إلى السلطة، تم الانقلاب عليها أو ضربها أو حياكة المؤامرات لإفشالها كما حدث في الجزائر وأيضاً مع حركة حماس.. وهذا التصرف اللا أخلاقي يناقض ادعاء الديمقراطية وحرية الفكر والتعبير عنه وممارسته.
والقضية ببساطة أن عقلية السلطة/ الحاكم ما زالت لم تستوعب امتداد التيارات الدينية وشعبيتها، فإذا كانت هناك خطوط حمر تجاه التيارات الدينية المنافسة الأقوى، فلم لا يعلن طي ملف الديمقراطية، لأنه إما الديمقراطية أو الديكتاتورية ولا وسط بينهما، ولكن هل نجحت تجارب إقصاء أو تغييب تيارات لها قواعدها الشعبية.
فمن حق الإسلاميين الضمانات لعدم الغدر بهم نتيجة ما جرى معهم من ظلم وخداع، والتيارات غير الدينية تحتاج أيضاً إلى ضمانات من التيارات الدينية حتى لا تغدر بهم؛ حيث يمكن أن يكون هناك حزب إسلامي وصولي انتهازي يستغل لعبة الديمقراطية للوصول إلى السلطة، وبعد وصوله واستلامه السلطة وتمكنه منها وإمساكه بالأمور بين يديه، يكشف عن حقيقة توجهاته ومخططاته فيغدر بشركاء الديمقراطية ويستفرد بالحكم ويعلن تطبيق النظام الإسلامي بحذافيره/ حكومة ثيوقراطية تمثل وجهة نظره الأحادية التغييبية، التي يظن نفسه بأنه يحمل برنامجها الإلهي المقدس (إن الدين عند الله الإسلام) "آل عمران 18".. وقد يجد المبررات الدينية لانقلابه كالحرب خدعة أو هذا من الكذب الحلال من أجل تطبيق شريعة الله، أو الضرورات تبيح المحظورات، والغاية النبيلة تبرر الوسيلة غير النبيلة متجاهلاً بأن ذاك مبدأ ميكافيلي لا أخلاقي، فالغاية النبيلة يجب أن تكون وسيلتها وطرق تحقيقها نبيلة.
وقد يلجأ إلى القوة "العنف والقمع والسلاح.." لتصفية المعارضة، ومقاتلة المرتدين من المسلمين وسفك دمائهم، وقتل المسيحيين الرافضين لتطبيق الشريعة الإسلامية، ويغلف استبداده وتسلطه وصدامه الدموي بطابع البطولة والشهادة.
إن حدوث ذلك وارد ويخيف الكثيرين، وقد يؤدي إلى حرب أهلية لا يتكهن أحد بنهايتها سوى الخراب والتدمير والقتل والتهجير وتحطيم كل شيء.
لذلك تبرز أهمية وضع ضوابط متفق عليها وجامعة تطمئن الجميع من حدوث مؤامرات تنسف الديمقراطية من جذورها، وتقتل الثقة بين أبناء الوطن الواحد. وهذا يتطلب طرح رؤية جديدة تحدد حقوق وواجبات الجميع لتنجح التعددية والمشاركة الحقيقية في الديمقراطية.
فحتى لا تكون الانتخابات جسراً لأحد يستغلها في الوصول إلى السلطة ثم يتنكر للجميع عند وصوله، يجب أن يلغي كل فريق من برامجه ما يثير الشك عند الآخرين ولا سيما مخططاته المستقبلية إن كانت متعارضة مع دستور القواسم المشتركة، وهذا يشمل الجميع الإسلاميين والعلمانيين والاشتراكيين واليساريين.
فالتيار الديني المرشح نفسه عليه أن يعلن التزامه بالدستور وبأنه لن يغير فيه شيئاً، ويوضح بأن برنامجه يتعلق بالجانب السياسي والاقتصادي والحقوقي والإداري، وأن برنامجه الذي استمده من الدين يمثل وجهة نظره هو، والبرنامج لا يتعلق بالعقيدة والعبادات لأنهما قضية خاصة.
ولا يطرح صيغة عامة مثل "النظام الإسلامي" وينسبها لنفسه، فيصير كأنما هو الممثل الوحيد للإسلام، وهذا استغلال للدين في الدعاية لتحريك مشاعر الناس الدينية ليصوتوا له، ولإسكات الآخرين أو لتصويرهم كأعداء لشرع الله. فلا يحق له أن يرفع شعاراً يحمل صفة "برنامج ديني سماوي مقدس" لأنه يمنح ما يطرحه القوة الإلهية، ولا يحق لأحد النقد أو الاعتراض على حكم الله المقدس، بينما هو في الحقيقة ليس شرع الله إنما هو وجهة نظر المرشح في الدين، والتي تتعارض مع وجهات نظر أخرى لها قراءتها المختلفة عن قراءته ولا سيما في التمييز بين فهم النص المؤسِس والنص المؤسَس، وعدم الخلط بين النص وبين شرحه، والتمييز بين العموميات التي لا تؤسس بنياناً تاماً وبين الفكر الذي تممه.
لذلك برنامج المرشح المتدين يخضع للمناقشة والنقد كأي برنامج آخر ولا يحق له الرفض أو الاحتماء بالتابو الذي لا يناقش، لأنه بذلك يتمتع بأخذ حقه في نقد الآخرين، وفي الوقت نفسه يمنع الآخرين من النقد ويحرمهم حقهم الديمقراطي، وهذا ليس بالعدل بل هو الديكتاتورية المقنعة.
فهو حر وله حقه في حمل برنامجه الديني/ الدنيوي، إلى الانتخابات ولكن بتسمية محددة وببرنامج تفصيلي يوضح موقفه من كل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان والحرية ووجهة نظره في حقوق المرأة المساوية للرجل.. وذاك الوضوح يجعل التصويت على برنامج وليس على التسمية. والكلام نفسه ينطبق على حملة البرامج الاشتراكية والليبرالية.. فعليهم أن يشيروا إلى أنها تمثل وجهة نظرهم هم لأن هناك وجهات نظر كثيرة أخرى للبرامج نفسها التي يرفعون عناوينها.
وهنا يصير الحوار عادلاً وموضوعياً في الجو الديمقراطي لأنه يعتمد على العقل والمنطق والحجة لإثبات أفضلية أي برنامج على برامج الآخرين في جو تنافسي شريف ومشروع بين البرامج المتنوعة والمتناقضة.
وإذا ما تمكن صاحب البرنامج الديني من إقناع الآخرين ببرنامجه وأطروحاته ونجح في الانتخابات يمكنه من تنفيذ برنامجه، ولكن تبقى مناقشة أطروحاته مفتوحة في جو ديمقراطي وموضوعي وضمن أطرها القانونية ومن خلال استقلالية السلطات الثلاث.
وتتجلى عقلانية ومرونة صاحب البرنامج الديني بإيمانه بأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، والإيمان بما ذهب إليه بعض رجال الدين النيرين من أن أية فكرة تحقق العدل فهي شرع الله، فيقبل بأية أفكار موضوعية وعقلانية وعلمية تفيد المجتمع في التقدم، وتحقق العدالة والخير والحق للشعب كله سواء أكان مصدرها من الدين أم من غيره.
وتبقى الممارسة مقياساً في النجاح والإخفاق، ومن خلال سلطة الإعلام الحر والسلطات المستقلة ومسؤوليتها، تتم مناقشة ومحاسبة ونقد السلطة التنفيذية على ما حققته في مجال الوضع الديمقراطي كحرية الإنسان وكرامته وراحته النفسية، وبناء القاعدة الاقتصادية ونتائجها كالتنمية وزيادة الدخل القومي وانعكاس ذلك على معيشة المواطن ورفاهيته.. لأن المواطن لا تهمه الشعارات والنظريات ونوع المسؤولين وأيديولوجياتهم، وإن تأثر بذلك لبعض الوقت ولكنه في النهاية يتعامل مع المحسوس، مع ممارسة النظري على أرض الواقع، وبقدر ما تقترب منه الممارسة بقدر ما ينشدّ هو إلى نظريتها.
وإن كان هناك ما يستوجب التعديل يعدل، لأن التشريع وسيلة من أجل الإنسان، وليس الإنسان من أجل التشريع. وأيضاً الدين هو من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل الدين!
وضمن تلك الرؤية التحديثية تنتهي إشكالية مفاهيم "الدين والدولة" و"الدين والسياسة" و"الشريعة والقانون" و"الشرعي والمدني"..
التحديث الحقيقي ثورة لأنه تحرير للعقل والمنهج والرؤية، والمفكر الوطني المخلص والغيور على قضايا أمته ومصالحها ونهضتها أياً كان الثوب الأيديولوجي الذي يرتديه، هو الحامل للرؤية التنويرية في التحديث والتحرير.
وقد كانت مراحل النهوض تبحث عن هوية للعرب، عن هوية للتحديث، هوية للفكر العربي الحديث، ولكنها لم تسع لتأسيس مدرسة فكرية متكاملة، ولا نظرية معرفة عربية.
والبحث عن أرضية مشتركة لجميع التيارات الفكرية ضرورة ملحة، ولكنه يحتاج إلى ثورة فكرية في المنهج والتحليل، ورؤى جديدة في المفاهيم، والاستفادة من تاريخية النهضة وجدليتها، للوصول إلى النقاط الفكرية المشتركة بين التيارات المتعارضة التي جمعها برنامج المقاومة والإصلاح والديمقراطية، وصوغ نظرية معرفية موحدة للفكر العربي الحديث ضمن الجدلية الثلاثية.
والدول العربية تمتلك قدرات مادية ومعنوية هائلة، المادية كالبترول والمليارات في البنوك الأمريكية والأوروبية والاستثمارات.. والمعنوية كالبعد الحضاري الإسلامي والتاريخي وإرادة الشعب العربي في التحرير والحياة الكريمة وبناء الأمة.. ولكن الأنظمة لا تستغل تلك القدرات بل لا تريد أن تستغلها نتيجة التبعية العمياء للخارج المعادي لنا ولنهوضنا والحرص على الكراسي.
خاتمة
لذلك على العربي الحر أن يسعى جاهداً إلى إيجاد مكان له تحت أشعة الشمس بحرية وكرامة، يفرض احترام العالم له في عصر التكتلات الكبرى التي لا تحترم إلا القوي، وهذا يتطلب منه العمل بإخلاص وصدق وأمانة لتحقيق بناء دولة الأمة العربية، دولة المواطنين في ظل نظام سياسي ديمقراطي تعددي يسوده القانون، وبناء القاعدة الاقتصادية القوية "زراعية مبرمجة وصناعية ثقيلة بما فيها الصناعة الحربية كالطائرات والدبابات والصواريخ" وبناء الجيش الحديث القادر على حماية الوطن وأبنائه وقيمه الإنسانية، والتحرر من الاستعمار والتبعية؛ التحرر الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.
فهرس الموضوعات:
-         مقدمة عامة..................................................................................1
-         نظرة تاريخية............................................................................... 1
-         قضية التراث والتحديث.................................................................... 6
-         مرحلة النهضة الفكرية الأولى............................................................. 8
-         مرحلة النهوض الثانية................................................................... 11
-         مرحلة النهوض الثالثة................................................................... 13
-         التيارات الدينية........................................................................... 14
-         أطروحات................................................................................ 16
o       التيار التراثي التحديثي..........................................................16
o       التيار التراثي العلماني..........................................................17  
-         مشروع الخطاب الثقافي الجديد..........................................................25
-         القضية الوطنية و القومية و المقاومة....................................................26
-         الموقف الأمريكي.........................................................................30
-         العنصرية الغربية على الصعيدين الفكري و الايديولوجي.............................32
-         التيار الديني الثوري......................................................................34
-         التحديث و المعاصرة.....................................................................36
-         الدولة و طبيعة النظام....................................................................37
-         الديمقراطية...............................................................................39
-         الإيمان و الدين...........................................................................40
-         الأخلاق...................................................................................43
-         الدين و العلم..............................................................................45
-         التيارات الدينية الديمقراطية.............................................................46
-         خاتمة.....................................................................................49







حسن صعب: الإنسان العربي و تحدي الثورة العلمية [1 ]
 2 الرسائل المتبادلة بين الشريف حسين والسير هنري مكماهون من 14 جويلية 1915 إلى 10 مارس 1916[2]
نشير هنا إلى أن كتب المؤرخين المسلمين القدماء مليئة بالأخطاء نتيجة الخلط بين التاريخ الديني والعلمي، وعلى سبيل المثال كتابة تاريخ بلاد الشام وعلى الأخص فلسطين قبل الميلاد، اعتمدت على اليهوديات، وقد أثبت علم التاريخ والآثار أن النبي موسى لم يخرج من مصر ولم يأت إلى فلسطين وبلاد الشام، وأن يشوع لم يدخل أريحا ولا أية بقعة في فلسطين، وأن مملكة داود وسليمان أكاذيب وأساطير لا صحة لها. ولا توجد أية رابطة عرقية بين يهود اليوم ويهود التاريخ ولا بين يهود التاريخ وبني إسرائيل فالرابطة رابطة انتماء للدين فقط. واليهودية دين وليست جنساً أو عرقاً أو إثنية، ولا وجود لشيء اسمه الشعب اليهودي أو الأمة اليهودية... ولا علاقة لليهود بفلسطين لا قديماً ولا حديثاً.

 4 علي زيعور:التحليل النفسي للذات العربية أنماطها السلوكية و الأسطورية ص 114 - 115[4]
5  عبد الله العروي: الايديولوجية العربية المعاصرة ص 83[5]
 6 عبد الله العروي: العرب و الفكر التاريخي ص 37[6]
  ابن كثير: نهاية البداية و النهاية ص 27 ج 1 [7]
 العقيلي: الضعفاء الكبير ص 262 ج 2[8]
 أحمد أمين ضحى الإسلام: ج 3 ص 207[9]
 السلطان عبد الحميد: مذكراتي السياسية ص 105[10]
 الكواكبي: طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد ص 134[11]
 ن.م ص 180[12]
 حسن صعب: تحديث العقل العربي ص 86[13]
 زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي ص 136[14]
 ن.م ص 18[15]
 ن.م 274[16]
 زكي نجيب محمود: المعقول و اللامعقول ص 234[17]
 زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي ص 68[18]
 ن.م ص 204[19]
 ن.م ص 79[20]
 ن.م ص 136[21]
 ن.م ص 102[22]
 محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني ص 81[23]
 محمد أركون: الفكر الإسلامي ص 16[24]
 محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني ص 225[25]
 محمد أركون: الفكر الأصولي و استحالة التأصيل نحو تاريخ أخر للفكر الإسلامي ص 199[26]
 محمد أركون: الفكر الإسلامي ص 111[27]
 ن.م الحوارات ص 296[28]
 محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني ص 187[29]
[30] وهناك مفكرون آخرون كان لهم دور هام منهم الراحل د. نصر حامد أبو زيد، د. حسن حنفي، د. سيد محمد القمني.. فلا بد من كلمات حولهم:
 - د. نصر حامد أبو زيد: يتقاطع في كثير من أطروحاته مع أركون في المنهجية والرؤية وسعيه لتأسيس نظام معرفي حديث، فقد اخترق أبو زيد مثل أركون (السياج الدوغمائي المغلق) والمستحيل التفكير فيه ليفكر في زمن التكفير، فطرح أسئلة مهمة منها ما تناول مصحف عثمان، والتأكد من نقل صحة القرآن من عصر غاب فيه التنقيط والشكل، وترتيب سور القرآن وآياته التي لم ترتبط بأسباب النزول.. وما أورده السيوطي عن الفصل بين معنى القرآن وصياغته، فالمعنى وحي، والرسول هو الذي صاغه بأسلوبه.
وهذه القضية التي يثيرها أبو زيد أثيرت في التراث فقد اُتهم القرامطة بأنهم يرون أن القرآن فيض من المعارف العلوية صاغها النبي بأسلوبه، فالقول بأن القرآن كلام الله هو مجاز، لأنه في الحقيقة كلام النبي. وقد ذكر السيوطي عدة آراء حول الوحي ومنها: (الرأي الثاني: أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب، وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى "نزل به الروح الأمين على قلبك". والثالث: أن جبريل ألقى عليه المعنى، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب).
ورأى أبو زيد أن ظاهرة الوحي تاريخية اجتماعية ثقافية لغوية، وعلى أساسها يفهم تجلي الميتافيزيقي/ الله/ المطلق، في الفيزيقي/ الإنسان، اللغة.
وتجديد الخطاب الديني ضرورة معرفية، ينطلق من حقيقة أن الخطاب الديني الموروث هو خطاب إنساني عن الدين وليس هو الدين، ولكن رجال الدين وحدوا في خطابهم بين النص الديني وفهمهم وشرحهم له وغلفا معاً بالتقديس فصار الشارح كأنما هو الله.
وفكرة نصر حامد تلك أشار إليها أركون فالطبري يقول: قال الله ويشرح وكأنما هو في عقل الله فيحل مكانه ليبين مراده. لذلك يجب التحرر من سلطة النص ومن أية سلطة تعيق النقد العلمي والتطور، والتمييز بين الدين والفكر الديني، بين النص وفهم النص.
وقد كانت هناك قراءات متعددة في الإسلام قبل أن يحتكر المسلمون المتشددون تفسيرهم الأحادي الذي فرض الفهم الوحيد للقرآن.
ويقول أبو زيد بأنه يجب في القراءة المعاصرة للقرآن الاستناد إلى منهج علوم اللغة والتاريخ. وهو يضع القرآن في سياقه التاريخي فاصلاً بين معانيه العقائدية وما دخل عليه تاريخياً، والنص القرآني نص لغوي أدبي بامتياز يخضع للدراسة كأي نص لغوي آخر. وحتى يكون هناك تقدم يجب أن يكون هناك نقد علمي للتاريخ وللتراث والواقع ولا توجد (مناطق فكرية آمنة) بمعزل عن التساؤل والنقد والنقاش الحر.
كما يرى أبو زيد أن الحرية الفكرية والنقد تحمي من الجمود والفساد المحتمي بمقولات "الحفاظ على الهوية" و"حماية القيم"، وأن خرق الإجماع التقليدي يؤسس لإجماع جديد، فالتطور يكون من خلال النقد المستمر..
وقد اتهم أبو زيد بالردة والكفر، وبما أنه لا يوجد في مصر قانون ضد المرتد، حرك خصومه ضده "محكمة الأحوال الشخصية" لتطليق زوجته منه عام 1995 لأنه مرتد، كافر، ملحد.. فرفض وزوجته القرار وتركا مصر وسافرا/ هربا إلى هولندا.
- د. حسن حنفي: يعد المؤسس لليسار الإسلامي فقد تبنى منهجية العقلانية في الإسلام "المعتزلة وابن رشد" (لا سلطان إلا للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه)، ورأى أن اليسار الإسلامي يرتبط بجذوره التراثية ولكنه يعيد قراءته ليثوره حتى تكون فروعه تقدمية تصلح للعصر، وتثوير وما نقده للسلفية إلا لأنه يشاركها في الجذور فهو ليس معادياً لها ولا يكفر أحداً، وهدفه صياغة مشروع قومي يرتبط فيه الماضي بالحاضر.
ومع أنه طرح قضايا تمس المحظورات الإسلامية لكنه مفكر مؤمن وليس كافراً أو ملحداً كما اتهمه رجال الدين، وقد نقد حنفي وكذلك سيد القمني وجمال البنا رجال الدين.
وقد كفر السلفيون أيضاً حسن حنفي على ما طرحه في كتبه، كما أثارت أطروحاته في ندوة نظمتها مكتبة الإسكندرية عن (الحرية الفكرية في مصر) عام 2006 ردوداً عنيفة كفرته حول رأيه ببعض صفات الله والحديث عن القرآن. وبعض الإسلاميين والعلماء الأزهريين أهدروا دمه وطالبوا بإقامة حد الردة عليه!
د. سيد القمني: دعا إلى تبني مناهج الفكر الغربية، وأعاد قراءة التاريخ برؤية مادية مستبعداً المقدس عنه. ورأى أن الإسلام كتاب مفتوح للجميع وليس من حق أحد أن يعد قراءته هي الصحيحة وأن الآخرين على خطأ. وقد تعرضت كتاباته للنقد الشديد ولا سيما الإسلاميات منها مثل كتابه (الإسلاميات)، وصادر مجمع بحوث الأزهر كتابه (رب هذا الزمان) الذي صدر عام 1997، وأخضعه ‏لاستجواب في نيابة أمن الدولة العليا حول الأفكار التي تدل على الارتداد.‏
وقد هاجم القمني بشدة الحركات الأصولية المسلحة لما قامت به في مصر من العمليات الإرهابية. وقد هددته جماعة أصولية متطرفة بالقتل إن لم يتب ويتوقف عن الكتابة، فخشي على حياته وحياة أسرته وأعلن توبته وتوقفه عن الكتابة في ذلك الوقت!
وما جرى مع سيد القمني ونصر حامد أبو زيد وحسن حنفي، جرى مع آخرين أيضاً، فقد أصدرت ندوة علماء الأزهر فتوى بتكفير د. أحمد صبحي منصور أحد شيوخ الأزهر "وهو من القرآنيين"، وصديقه د. فرج فودة على كتابه (الحقيقة الغائبة)، وقد اغتالت الحركات الأصولية المتشددة فرج فودة بعد أيام من الفتوى عام 1992..
كما جرت اغتيالات كثيرين في دول أخرى كما حدث في الجزائر، وقد توقفت هذه المآسي حالياً ولكن الصفحة لم تطو نهائياً، وهي تذكرنا بما جرى في المرحلة الأولى من النهوض مع طه حسين وزكي مبارك وعلي عبد الرازق وغيرهم!
لقد رأى كثير من المفكرين أن ظاهرة التكفير وإصدار فتاوى التهديد والقتل لن تنتهي إلا بإلغاء حكم الردة الفقهي في كل المؤسسات الدينية الرسمية والخاصة، والسماح بالنقد العلمي الموضوعي رسمياً، وفتح باب الحوار والمناقشة الحضارية بدلاً من السباب والتهديد!
والكاتب الحر عندما يشعر بالغربة في مجتمعه ودولته نتيجة الاضطهاد الفكري السياسي أو الديني، يضطر إلى اختيار أحد المخارج التالية:
1- الشعور بالاغتراب والانكفاء على نفسه والانطواء وما يمكن أن يخلق ذلك من أزمات نفسية "الموت البطيء قهراً".
2- الهروب من الوطن إلى بلاد يتمكن فيها من حريته والتعبير عن نفسه.
3- التمرد والإصرار على أداء رسالته، فيتعرض للقمع والاضطهاد، ويحيا في القلق والتوتر من ملاحقة السيف له!
أما الكاتب غير الحر فهو خارج المعادلة؛ لأنه إما أن يكون انتهازياً فيبيع قلمه للسلطة الحاكمة ولمن يدفع، أو يؤجر قلمه ونفسه لمن هم الأعداء الحقيقيون للوطن!
التراث الإسلامي يعني تحديثه بما يناسب كل زمان ومكان.
وعن صفات الله عند علماء أصول الدين يقول بأنهم عندما يتحدثون عن ذات الله وصفاته وأفعاله، فهم يتحدثون عن الإنسان الكامل، فكل ما وصفوه على أنه الله إن هو إلا إنسان مكبَّر إلى أقصى حدوده..

 خليل أحمد خليل: مستقبل الفلسفة العربية ص 46[31]
 29 الغنوصـية‘ Gnose كلمة يونانية تعني ’المعرفـة‘، اصطلح الدارسون على استخدامها لوصف عدد من الحركات الدينية في فترة سيطرة الإمبراطورية الرومانية، كثيرٌ منها لا صلة له على الإطلاق بالمسيحية. وهي تيار ومذهب فكري مُعقّد ذو فلسفات باطنية، بذل جهده لاكتساب المعارف الفلسفية الوثنية، مُهملاً فكرة الوحي الإلهي كأساس لكل معرفة لاهوتية، ومُفسّراً إياها تفسيراً مجازياً خالطاً بين النظريات الفلسفية الوثنية مع العناصر الذي نقلها مع العبادات الشرقية، مكوِّناً بذلك نظريات وفلسفات غريبة. لهذا فإن كل شكل من أشكال الغنوصية يشمل بعض الفكر الإبراهيمي إلى جانب الغنوصية الوثنية، ويبدو أن العهد الرئيسي للغنوصية هو الرؤى اليهودية وأفكارها عن العالم السماوي، بالإضافة إلى نظرية ثنائية الكون والخلق -المنقولة نوعاً ما عن  فارس – ايران - ( والتي تضع الله وأعماله "الصالحة" من جهة قبالة العالم وأعماله "الشريرة" من جهة أخرى، لهذا خرجت الغنوصية بمبدأ التعارض القائم -والدائم- بين الروح و المادة الجسد). وهكذا خلع الغنوصيون على الفكر اللاهوتي طابعاً غنياً باستخدام المنطق، وبهذا يصح القول أنهم
 30 كلمة الميثيولوجيا تشير إلى مجموعة من الفلكلور / الأساطير الخاصة بالثقافات التي يعتقد أنها صحيحة و خارقة تستخدم لتفسير الأحداث الطبيعية و شرح الكون و الإنسان كما تشير إلى فرع من العلوم التي تتناول جمع و دراسة و تفسير الأساطير. موسوعة ويكيبيديا
 محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي ص 387[34]
 محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي ص 207[35]
 مفهوم خيالي غير قابل للتحقيق فهو بحر خيال و متاهة أوهام.[36]
[37] تعني العرق في علم الإنسان و يقصد بها المجموعة البشرية التي لها خاصيات مميزة تحدد أعضائها مع بعضهم البعض عادة على أسس التراث التاريخي و اللغة و الدين و السمات السلوكية البيولوجية.
 وهم الأصالة و المعاصرة: مجلة العربي عدد 316 مارس 1985[38]
 محمد أركون: قضايا في نقد العقل الديني ص 289[39]
 زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي ص 61[40]
 عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ ص 117[41]
  [42] الرأسمالية مرفوضة لأنها هي أساس الاستغلال وهي مرتبطة بالإمبريالية ووحشيتها.. والمواطن غير المالك لوسائل الإنتاج مستعبد في لقمة عيشه للمالك، فلا بد من تحريره من الاستعباد والاستغلال والاستلاب ولن يكون ذلك إلا في الاشتراكية لأنها تلغي الملكية الخاصة المعبرة عن الأنانية والجشع وهي أساس الشر كله في العالم وعبر التاريخ! ولكن بعد التجارب الفاشلة لدعاة الاشتراكية في الوطن العربي وسقوط البعض، واستقطاب التيار الديني لكثير من القاعدة الشعبية، صار لزاماً على الاشتراكيين إعادة النظر في منهجيتهم وأساليب عملهم فلا اشتراكية دون اشتراكيين مخلصين صادقين أخلاقيين وقاعدة جماهيرية واعية تلتف حولها في مرحلة التحديث والثورة الديموقراطية للتمكن من فرض نفسها والمنافسة الشريفة مع بقية القوى والأفكار.

 [43]  في الفلسفة الغربية في القرن التاسع عشر تبلور تياران التيار المثالي والتيار المادي؛ فالمثالية "الموضوعية" تطرح أسبقية الإله/ الروح المطلقة/ الفكرة المطلقة/ العقل الكوني/ الإرادة الكلية.. على المادة، وتؤكد على وحدة المظهر المادي/ الشكل، وجوهره/ خصائصه. ولا يمكن للمادة أن تنتج الوعي الإنساني كما لا يمكن للوعي الإنساني أن ينتج المادة. فلا المادة ولا الوعي الإنساني عنها يمكن أن يكون هو العلة الأولى للوجود، وذاك يعني وجود علة أولى/ جوهر أولي مطلق ومفارق للوجود والفكر. وهو عند بعضهم ليس خارج الوجود بل داخله (مذهب وحدة الوجود/ الوجود والفكر/ الوجود والفكرة المطلقة) كما عند هيغل الذي يمثل قمة الفلسفة المثالية الموضوعية.
أما المادية فتطرح أزلية المادة وأبديتها، وهي تقول بأسبقية الوجود المادي على الوعي، أي الوجود الإنساني المادي يسبق الفكرة التي كونها وعيه عنها وهذا أمر بديهي، والإشكالية في القول بأن الوعي الإنساني جرد المادة وفصلها عن ماهيتها/ صفاتها/ خصائصها/ قانونها.. وجعل تلك الماهية خارج الوجود كإله. فهي جعلت الماهية/ القانون معادلاً لمفهوم الله، وهذا غير صحيح، فماهية المادة هو قانونها وليست هي الله!
لذلك الأسبقية/ القلب المادي عند فيورباخ، أبقت الثنائية وهي أقرب إلى مذهب الحلول الصوفي. ولا فرق بين رؤية هيغل والمادية لأن هيغل جعل العلة في وحدة مع الوجود، بينما المادية بل كل الفلسفات المادية أحلتها في الوجود، وإن تجنبت الحديث عن ماهية القوة/ العلة الأولى.
وفكرة وحدة الوجود والحلول تتحدثان عن علاقة الفكرة المطلقة المستمرة بالوجود المادي، ولكنهما لا تخضعان للبرهان العقلي.
ليست الإشكالية في عدم فصل المادة البسيطة عن ماهيتها وعدم وعيها لذاتها، فالمادة صورة وماهيتها قانونها وهذا صحيح، والوجود والحياة وجدليتهما في تطورهما لهما قوانينهما التي لا تنفصل عنهما، ولكن تلك القوانين ليست هي الله حتماً وليست جدلية المادة هي الله، وهنا الإشكالية وهي تكمن في قضيتين:
القضية الأولى عدّ القوة هي القانون، لكن الإيمان بوجود المادة الأولى الأزلية/ القديمة، يجعل أزلية المادة كصورة تتضمن أزلية أشكال وصور الوجود كله من ألفه إلى يائه وقوانينه المختزنة فيها بما في ذلك شيفرة جدلية التطور، وهذا غير منطقي!
وهو لا يعلل حتمية وجود الأشكال التي لما تأت بعد، فهل الأشكال القديمة اكتسبت قوانينها الجديدة المختزنة أو غير المختزنة مع تحولها إلى تكوين أشكال جديدة، أو انبثاق أشكال جديدة لم تكن؟
المادي يجعل المادة الأولى الأزلية هي العلة الأولى القديمة التي لا تفنى إنما تتحول، أما الكون الناشئ فهو المحدث سواء أكان عن طريق الانفجار الكوني الكبير أو الانفجارات الكونية الكبيرة أم غير ذلك!
والفلسفة اليونانية القديمة وكذلك الفلسفة الإسلامية في مقولاتهما عن قدم العالم أو حدوثه، أو الممكن الوجود/ الكون والحياة المخلوقين، مقابل واجب الوجود/ المحرك الأول/ الخالق، كتفسير للعلة الأولى وكحسم للتسلسل اللانهائي بتحديد بداية له.. يمكن أن يعتمد عليها المادي باعتبار المادة الأولى أزلية مجازياً لأنها خارج الزمن وهي مقابل واجب الوجود، وتحولاتها المحدثة زمنياً مقابل ممكنة الوجود!
والقضية الثانية القول بأن المادة لا تعقل ما تفعل وهذا صحيح، ولكن الادعاء بأن كل ما يحدث هو نتيجة عشوائية مطلقة، يجعل العشوائية الكلية تحمل شيفرة برنامج "رياضي" منظم وهذا تناقض غير مقبول!
فكيف تتحول العشوائية وحدها - وهي غير واعية حتماً- إلى الكون بنظامه الدقيق، وما تحتويه الطبيعة من قوانين متآلفة ومترابطة فيما بينها!؟
والمادة المركبة والمعقدة لا تفسر الانسجام بين قوانينها الكثيرة والمعقدة لأنها غير واعية لما يحدث، ولا واعية لإنتاجها اللاواعي واللاهادف للكائن الحي الذي يكتسب قوانين جديدة معقدة لم تكن موجودة في المادة السابقة ثم يتطور متجاوزاً مجرد الحركة الميكانيكية، إلى الكائن الحي المتطور وقمته الإنسان المنسجمة قوانينه المتعددة والمعقدة، والتي تصيّره مدركاً وهادفاً لفعله!
العلم يدرس الظاهرة الفيزيائية ويحللها ويبحث في أصولها وقوانينها التي لا تنفصل عنها، إلا أنه لا يستطيع الإجابة عما هو خارج الملموس والمحسوس، وهنا مفترق العقل فهو قد يقفز من الوصف العلمي المجزّأ ليعطي رؤية كلية خاطئة، وهذا لا يحل الإشكالية.. أو قد يبدأ بمحاولة لإدراك الكلية/ الواعية والهادفة والمفارقة خلف وخارج مسار التحول والتآلف والتعقيد اللاواعي في سيمفونية الوجود والحياة!


 هشام شرابي: مقدمات لدراسة المجتمع العربي ص 120[44]